المقدمة:
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد الخلق أجمعين وهادي الأمة
إلى صراط الله المستقيم، وبعد:
البلاغة في اللغة شيء بالغ ،وأمر بالغ أي جيّد ، ويشــتهر تعريف البلاغة
بأنها مطابقة الكلام لمقتضى الحال مع فصاحته ، والبلاغة في الكلام مرجعها إلى
أمرين :
الأول :الاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد ، وتمييز الكلام الفصيح
من غيره، والثاني : هو تمييز للفصيح منه ،كما في
علم متن اللغة ،أو علم الصرف ، أو النحو على أن الفصاحة توصف بها الكلمة، والكلام،
والمتكلم، وأنها تكون بدون البلاغة ،وأن البلاغة يوصف بها الكلام والمتكلم دون
الكلمة المفردة ، ولا تكون بدون الفصاحة ، و مجيء الإسلام معجزة قولية هي القرآن ،
ودخول غير العرب في الإسلام ، احتاج المسلمون إلى أن يتعرفوا إعجاز القرآن ،و
اضطروا إلى بحث ودراسة لذلك، فصارت معرفة البلاغة أمراً دينياً كلامياً يقرر حجة
الله في عقول المتكلمين، وقد اعتمدت الحياة على القرآن كتاب الإسلام، فكان مصدر
التشريع ، وأساس الأخلاق ،وقد كان للكتّاب في مؤلفاتهم أثر واضح في حياة البلاغة ،
وقد استطاعت الفنون أن ترقى جميعاً، وقد كان للفن القولي نصيبه من النهوض ، واتجه
شعراء المولدين إلى الاختراع والإبداع ، ومعرفة طرق إدراك جيّد الكلام ، وكيف يكون
التفريق بين كلام جيّد ،و آخر رديء، أو الاقتدار على صنع كلام جيّد، قصيدة منظومة
، أو نثراً مرسلاً ، وتلك هي الدراسة البلاغية التي يتبين مؤرخها الدقيق تلك
العناصر المختلفة في نشأتها وتدرّجها ، ويميزها واضحة في أبوابها ومسائلها .
ومضت الدراسة البلاغية تتقلب بها المناهج، وتؤثر فيها البيئات ،وتتأثر
بالثقافة الإسلامية العامة ، من أصيلة ودخيلة،وقد اختلفت مناشئها ، والتقت فيها
موارد متعددة ،ومؤرخ البلاغة يجد من مذاهب هذه الدراسة ، ومدارسها ، ما يحسن تتبعه
، وقد أدرك القدماء أنفسهم وجود بلاغتين ، سمّوا الأولى البلاغة على طريق العجم ،
وأهل الفلسفة ، وسمّوا الثانية البلاغة على طريقة العرب والبلغاء ، ولكل مدرسة
رجالها مما تتسع لمؤرخ البلاغة مجال تتبعه ، وفحصه . وازداد تنسيق علوم الأدب،
فوصلت إلى اثني عشر علماً، لوحظت في ترتيبها اعتبارات خاصة ، وبالطريقة المنطقية
نفسها حصروا أبحاث هذه العلوم ، وقالوا في المعاني إنه في ثمانية أبواب ، وشرحوا
وجه انحصار علم البيان في التشبيه والمجاز والاستعارة والكناية، وانحصار البديع في
قسمين: التحسين المعنوي، والتحسين اللفظي. وللبلاغة اليوم حركات تجديدية ، ومن هذه
الحركات ما هو موفّق، ومنها ما هو طائش
غير مسدّد، والتجديد الأدبي يرمي إلى غرضين :قريب ، وبعيد، فغرض القريب هو تسهيل دراسة المواد الأدبية ، وهذا الغرض يحققه
المنهج الصالح ، والكتاب الملائم ، والمعلم الكفء ، وأما الغرض البعيد من التجديد
في علوم الأدب أو علوم العربية ، فهو أن تكون هذه الدراسات الأدبية مادة من مواد
النهوض الاجتماعي تتصل بمشاعر الأمة ، وتساير حاجاتها الفنية المتجددة ، ولا يتحقق
هذا الغرض إلاّ بتغيير قد يمسّ الأصول والأسس البعيدة ، ويدّخر له العزم والجهد
حتى تصير اللغة جزءاً من كيان الأمة، وجانباً من وجودها العملي، ولا تفترق اللغة
في حال عنها في أخرى ،إلاّ بقدر ما تتطلب الفنية ، والعمل الأدبي ، فمن حيث وصل
البلاغة بالحياة الأدبية ، وجعلها دراسة ذات جدوى عمليّة يكفي بأن نأخذ برأي
القدماء حينما كان أبو هلال العسكري يقول : إنّ صاحب العربية يستطيع بعلم البلاغة
أن يفرق بين كلام جيّد وآخر رديء ، ولفظ حسن ،وآخر قبيح ، ومن حيث إخضاع البلاغة
للمنهج الأدبي الفني في الدراسة يكفي أن نحيي منهج بحث ( المدرسة الأدبية ) ،
وآثارها وكتبها ، ونبدأ البحث البلاغي المستوفى من
اللفظة المفردة ، فنبحث فيها الأسلوب ، واختلافه ، وأوجه تفاوته، ومزايا أنواعه المختلفة
،وحين نستبعد ما حشدته طريقة المعجم ،و أهل الفلسفة في البلاغة من مقدمات منطقية ،
واستطرادات فلسفية مختلفة ، تضم إلى البلاغة مقدمة فنيّة تعرّف الدارس فيها بمعنى
الفن، وطبيعته ، ونشأته ، وغايته، وأقسامه ، نضم إلى تلك البلاغة مقدمة نفسية ،
تعرّف الدارس بالقوى الإنسانية ذات الأثر في حياته الأدبية .
التلخيص:
يقوم التاريخ العلمي الصحيح للبلاغة العربية على دراسة ذات نواح ثلاث:
الأولى : تاريخ مسائل المادة وقضاياها ،تاريخاً يصف نشأة المسألة ، وبدء
ظهورها ، ثم تدرّجها،وأين استقر بها الأمر أخيراً ، والثانية : تاريخ
المفكرين، وقادة الرأي من أصحاب المذاهب، والآراء المتميزة في حياة المادة ، بحيث
نرى في هذا التاريخ شخصية أولئك الرجال في هذه المادة ، و نوع تناولهم لها ، و
أثرهم فيها ، فجنسيّة الرجل منهم ، وبيئته وثقافته ، ومزاجه ، يؤثر في تناوله
لمسائل المادة وتفكيره في موضوعاتها ، و الثالثة :تأريخ التأليف و المؤلفات
في المادة ، فالرجل بما يفكر ويقررّ ، قد يكون غير الرجل بما يكتب ويدوّن ، وما
يكتبه المؤلف يتلقاه عنه متلقون ، يختلف فهمهم له ، وهكذا نحتاج إلى أن نؤرخ ما في
المادة تأريخاً، وبذلك يقدر كل كتاب في تاريخ المادة بقدره، وينزل المنزلة اللائقة
به ، ولا تؤرخ الكتب تأريخاً حقاً ، إلاّ يوم ترد كل مسألة فيها إلى أصلها في تفكير
المؤلف،ثم يربط بينها وبين صورها المكررة ، أو ما تخلّف عنها من آثار في نفوس
الخالفين بعد مؤلفها . تلك النواحي الثلاث
ربما لا يسهل على الدارس أن يلتزم فيها ترتيباً بعينه ، لأنها متداخلة متصل
بعضها ببعض إن أقصى ما انتهت إليه سعة كلمة البلاغة ، هو الدلالة التي تمكن
التفريق بين الجيّد والرديء من القول، وتعين على صنع هذا الجيّد من صناعتي النثر و
الشعر ، و نجد أن المتقدمين يشيرون إلى تسمية علم البلاغة و توابعها بعلم ( نقد
الشعر ) ، و ( صنعة الشعر ) ، و ( نقد الكلام ).
مرت البلاغة العربية بأدوار متعددة بدءاً من مرحلة البداوة ، وانتهاءً بدور
الدراسة ، أما مرحلة البداوة ، فالصحراء العربية كانت زاخرة أيام الجاهلية
بهذا الصنيع الذي سمي فيما بعد بلاغياً أو بيانياً ، وكان لهؤلاء البداة في أوقات
السلم مجامع وسوامر، يختلفون إليها ليلاً ونهاراً ، فينشدوا الشعر، ويتحدثوا بما
قال الخطباء ، وكانوا و هم أهل العصبيّة يتفاخرون ، وعدتهم في ذلك القول
المنمق ، والفن المؤيد من ألسنة الناطقين ، كان تناولاً فطرياً بادياً على الطبيعة
الشاخصة ، والبيئة المشهودة ، يحتكم فيه إلى ذوق فطري ثم جاء الإسلام ، و
آثرَ معجزة من الفن القولي ، و الإبداع الكلامي ،هي القرآن ، وهكذا كانت الدعوة
الإسلامية عملاً بلاغياً قوياً ، إذ اعتمدت على حكم نقدي، وقامت على رأي في الفن
القولي، تنتهي به إلى أن هذا الصنف من الكلام العربي مثال لا يحتذى ، وكان مجال النقد الأدبي في العهد الجديد ، أوسع مما
كان في الجاهلية ، فكانت الحياة الجديدة تقوم بلغة تنهض كذلك وترقى ، وكانت اللغة
بهذه الحياة فرصاً للرقي والتقدّم . وفي العهد الأموي كانت الدولة عربية السياسة
و الحكم ، تعمل للاحتفاظ بالروح العربية واحتاجت في تمدينها إلى من يحفظ على
أبنائها روح العربية ، فظهرت طبقة المؤدبين الذين كان عملهم رواية الشعر و الأنساب
و الأيام للناشئة المتمدينة ، ويملون عليها من ذلك ما يملون ، ويأخذونهم بحفظها
وروايتها. وفي طبقة (المؤدبين ) أول تغيير يدخل على منهج الدراسة الفطرية ، إذ
أخذوا يقاومون عوامل إضعاف الروح العربية ، ويحاولون تحليل أحكامهم النقدية ، وقد
تكلم أولئك المؤدبون في معنى الفصاحة ، والبلاغة ، وحاولوا إيضاح مفاهيم هذه
الأشياء ، ومن مظاهر هذا التغيير في المنهج البلاغي ، ما خلفّه أولئك المؤدبون من
مكتوبات ،نستطيع أن نرجح أنها لم تُجاوز الرسائل الخفيفة ،تحمل عناوين بلاغية ،
مثل كتاب (المعاني ) . وفي هذا العصر الأموي ، وأوائل العباسي ، نجد العوامل
الاجتماعية تعمل عملها في إعداد عصر جديد ، والتهيئة لتغيير واضح ، يقود إلى
المرحلة الرابعة وهي (الدور الدراسي)، أو ما يسمى(بالدور العلمي)، وقد بلغت
الدولة والحياة في القرن الثاني مبلغاً بنماء الرغبة في العلم ،والإقبال على صنوفه
المختلفة ،فيتوزع نشاط الجماعات والأفراد ، أعمال من هذا النوع يكبّون عليها جادين
، في ألوان من النشاط الواثب ، وهكذا مضت هذه الجماعات الجديدة والدولة الناشئة ،
تستوفي في حظها بصنوف من الدرس، مختلفة الألوان ، يأخذ هذا من ذاك ، ويعطي الثاني
الأول ، وعلى الباحث أن يؤرخ صورة ما ،من
صور نشاط الحياة ، أن يقدر هذا كله ، ويلتمس مصادر نماء ما يؤرخه . ومن هنا نلتمس
نشأة البلاغة في أكثر من ناحية ، وعند عديد من الجماعات الدارسة ،والبيئات
الخارجيّة مما يظن بادئ في بدء ألاّ صلة لها بهذه الظاهرة ، وهذه وقفة لدفع وهم
سائد ،و قد توهّم أصحاب الأوليات ،فعدّوا أشخاصاً بأعيانهم ،أو ذكروا مؤلفات
بأسمائها ، على حين كان ذلك عمل جيل سابق أو أكثر هو الذي أنضج ما أتى به هذا
الشخص ، واحتوى عليه ذلك الكتاب . وعن الأوليات البلاغية ، فإن أول ما ألف في
البيان هو كتاب (مجاز القرآن ) لأبي عبيدة معمر بن المثنى ، وقد ازدحمت حوله أقلام
المحدثين من أبناء هذا العصر ،كما أسهب القدماء وبيّنوا فضله ، لكن المحدثين قد
اختلفت نظرتهم إلى هذا الكتاب ، فكانت لهم آراء في الكتاب ، فالدكتور طه حسين
يرى أن لفظ (المجاز ) عند أبي عبيدة لفظاً مبهماً غير محدود ، فكتابه كتاب في
اللغة ، توخّى فيه أبوعبيدة أن يجمع الألفاظ التي أريد بها غير معناها الوضعي من
غير أن يفرّق بين أنواع المجاز ، وكاتب آخر هو الأستاذ إبراهيم مصطفى عرض
لكتاب أبي عبيدة الذي رأى أن استعمال أبي عبيدة للبلاغة ليس إلاّ مناظرة لكلمة
النحو في عبارة غيره من علماء العربية ،ثمّ وصف ما في الكتاب ، واقتبس منه
اقتباساً متكثراً ، كما أن صاحب (ضحى الإسلام ) أحمد أمين لم يعرض لشيء من
الحديث عن كتاب (مجاز القرآن ) فيما كتبه عنه، ممّا يشبه الترجمة لأبي عبيدة، مع
أنه تحدّث عما تركه أبوعبيدة من الكتب . ويبدو أن أقربهم إلى الصواب في وصف مجاز
القرآن لأبي عبيدة هو الدكتور طه حسين بقوله عما قرأه منه ، توخّى فيه
أبوعبيدة أن يجمع الألفاظ التي أريد بها غير معناها الوضعي من غير أن يفرّق بين
أنواع المجاز ، و أما عدّه كتاب نحو ، فضرب من التكلف . ولئن طال القول في تحرير
معنى المجاز في تسمية أبي عبيدة ، واستعماله فما ذلك إلاّ لبيان نشأة المصطلحات
البلاغية ، أما قول القدماء في كتاب (مجاز القرآن ) فما كان بين المؤلف و أبناء
عصره ، ما يكشف عن غرض المؤلف جلياً ، ولكن من القدماء من ينظر إلى كتاب المجاز ،
ويعده من كتب المجاز بمعناه البلاغي ، وخاصة أصحاب أصول الفقه ، حينما يتحدثون في
مقدمتهم اللغوية ، ثم يعرض (ابن تيمية ) لكتاب المجاز ،يتصدى ومراد صاحبه من اسمه
، إذ يتصدى في حديثه عن دلالة الإيمان على الأعمال إلى أن هذه الدلالة حقيقة لا
مجاز ، لحدوث هذا الاصطلاح ، وكما نظر إليه (الأصمعي ) حين عاب على أبي عبيدة قوله
في القرآن برأيه ، وهكذا يبدو اطمئنان القدماء إلى أن كتاب مجاز القرآن لأبي عبيدة
من كتب التفسير .وهكذا ندرك أن أواخر الدور الفني في حياة البلاغة قد كانت أوائل
الدور العلمي ، ويمكن توزيع البحث البلاغي في صورته التي يستحق بها هذه التسمية
،فإنه يُوزع على المناحي الثلاثة الآتية : البحث ،والرجال ، والكتب. أما البحث
فإنه تأثر بالمؤثرات المختلفة من ثقافات ، و أمزجة ،و تيارات ، ما يشير إلى اتجاه
التطور ،ويدلنا البحث على صلة البلاغة بالفلسفة على الجانب الواضح من صلة الكلام
بالفلسفة ، وهناك قضيّة إعجاز القرآن ، وهكذا تتسق صلة المتكلمين المتفلسفين
بالبلاغة عن طريق تفردهم تقريباً بخدمة هذه القضية الكبرى في إعجاز القرآن ، وهكذا
ندرك من قرب أن البحث البلاغي قد اتجه اتجاهين مختلفين ، وهما باصطلاح المحدثين: (المدرسة
الأدبية ) و (المدرسة الكلامية ) في البحث البلاغي ، وتتميز المدرسة
الأدبية بالإكثار المسرف من الشواهد الأدبية شعراً ونثراً ، مع الإقلال من
التعاريف و القواعد ، وتعنى الكلامية بإعجاز القرآن الذي هو ملتقى ما بين الأدب و
العقائد ، والفلسفة الإلهية . على حين تعنى المدرسة الأدبية بالتكوين الأدبي ،
والتمرين على صناعة الجيّد من الكلام ، و تربية الذوق الناقد ،وعلى أساس هذا
التقسيم البارز بين التيارين الواضحين ، في البحث البلاغي يكون النظر في تاريخ
التأليف في البلاغة ، وتاريخ الرجال المشهورين : أما تأريخ الرجال الذي
نتطلع إليه ، وإنه ليس مما ينال بالنظرة العابرة. ولن يكون إلاّ بتحليل دقيق
ولرجال البلاغة سمات عامة منها : أنهم في كثرتهم ذوو صلة بالفلسفة وبيئتها ، ويتفق
ذلك في جميع أدوار حياة البلاغة : نشأة ، وتطوراً، وجموداً ، سواء أكانت الفلسفة
العامة ، أم الفلسفة الكلامية الخاصة ، ومن ملامحهم أن كثرتهم من غير العرب ، وإذا
كانت عجمة مع فلسفة فقد كمل البعد عن مجال الفن و روحه ، بقدر البعد عن حسّ
العربيّة ، وتَمثُّل روحها ، وإدراك مجال الجمال فيها، ومن خصائصهم عدم قيام رابطة
مكانية بين نفر منهم، فتكون لهم مدارس منسوبة إلى مكانها كالمدرستين البصرية و
الكوفية في النحو، وربما يرجع ذلك إلى أنهم لم يبلغوا من الكثرة حداً، ولم يبلغوا
من العصبية المذهبية في البلاغة الحد الذي يجعل لمدارسهم معالم وخصائص ، كما أننا
لا نجد الكتب في طبقاتهم كالذي نجده من كتب الطبقات للجماعات المختلفة من اللغويين
والنحويين ، ومن الملاحظ في حياتهم أنه لا يتميز تقسيمهم على المدرستين البلاغيتين
المعروفتين ، فقد يكون فيهم الكلاميّ الصريح ، وقد يكون فيهم الأديب الواضح ، أو
المشارك في هذه وتلك أي ( في المدرسة الأدبيّة ،و المدرسة الكلاميّة ).
فمن رجال المدرسة الأدبية : ثلّة من الأولين في
القرن الثاني و الثالث الهجريين: (عبد الحميد الكاتب ،ابن المقفع ، الجاحظ ،المبرد
) ، وهناك رجال أصحاب مؤلفات متخصصة نعدّ منهم (عبدالله بن معتز ، قدامة بن جعفر
،العسكري، الرمانّي ، الباقلاني ، ابن رشيق ، القيراوني ، ابن سينا الخفاجي،
الجرجاني أبو بكر عبدالقاهر، وابن الأثير ضياء الدين ، والمرزباني في نقده ، وابن
عبد ربه في عقده ).
ومن رجال المدرسة الكلاميّة : (السكاكي ) أبو يعقوب يوسف في تقييد هذه
البلاغة وتقسيمها على أقسامها ، وهو الذي كان أصل ما عرفت القرون بعده من صور
للبلاغة حتى عصرنا هذا ، وكما لم يمنع التمثيل من تقدير رجال من ذوي النزعة الأدبية
البلاغية ، فكذلك الأمر في الخطة الكلاميّة ، إذ نعد فيها من لم يتفردوا بوصف
البلاغة (كالزمخشري في تفسيره الكشاف ) إذ فسّرَ ،فطبق اصطلاحات ،وقدّم تخريجات
كانت خدمة مباشرة للنزعة الفلسفية البلاغيّة .
وأما المؤلفات ، فهو ليس إلاّ إشارات مركزة للكتب التي قدمت الإخراج
البلاغي ، فلوّنته ،وأثرت فيه ،فمن كتب المدرسة الأدبية التي قدّمتها ثلة الأولين
(البديع ،نقد الشعر لقدامة ، والصناعتين الكتابة والشعر لأبي هلال ، والنكت في
إعجاز القرآن للرماني ، وإعجاز الباقلاني، والعمدة لابن رشيق ). أما كتب المدرسة
الكلامية فمنها (نهاية الإيجاز ودراية الإعجاز) للرازي، و( مفتاح العلوم)
للسكاكي.وأثر الفلسفة جلّي في البلاغة التي عاشت في جميع أدوارها
في كنف رجال الفلسفة ، وتحت رعايتهم ، ففي دور نشأتها ، وتكوّنها نرى من
رجالها (سهل بن هارون ) و (الجاحظ) ، و(قدامة بن جعفر).
خطونا إلى دور من أدوار تطورها، وظهور التأليف المفرد المستقل فيها،فنرى
أنّ (عبدالقاهر الجرجاني ) كان على مذهب الأشعري ،ثمّ يبدأ دور التلخيص والشرح ،
فالحواشي والتقارير فنرى من رجاله (عبدالرحمن بن أحمد ) كان إماماً في المعقولات ،
له في علم الكلام كتاب (المواقف ) وكذلك السيد الشريف الجرجاني ، والبسطامي ، ودعوى
الفلسفة كانت منذ القدم تمضي إلى القول بأن
خطابة أرسطو وشعره هذين ، قد أوحيا بخواطر الشعراء ، ومعاني الكتّاب ، في عصر زهو
الأدب العربي ، وروح الفلسفة ما زالت مسيطرة على درس البلاغة ، والتوسع في أبحاثها
مازال يجري أكثر ما يجري على رسوم بحث الفلسفة ، ذلك أن هذا البحث قد اتجه اتجاهين
مختلفين ، فكانت هناك طريقتنا لدراسة البلاغة لكل واحدة منها مزاياها وخواصها ،
وهاتان الطريقتان هما : (طريقة المتكلمين وطريقة الأدباء ) ، فأما الطريقة الأولى فتمتاز في الجدل والمناقشة ، والتحديد اللفظي ،
والعناية بالتعريف الصحيح ، والقاعدة المقررة ، وهذه الطريقة جليّة في (نقد الشعر
) لقدامة بن جعفر ، حيث نراه يتكلم عن الهجاء بالغدر ، ويقول إن هذا الفعل إنما هو
من أفعال الجهل والبهيمة . وأما الطريقة الثانية وهي طريقة الأدباء في درس البلاغة ،فتمتاز
بالإكثار المسرف من الشواهد الأدبية نثرها وشعرها ،و الإقلال من البحث في التعاريف
و الأقسام ، ونرى هذا في كتابة (أبي الهلال العسكري)في الصناعتين ، يسوق في المقام
الواحد عشرات الأمثلة والشواهد من القرآن والحديث ، وكلام العرب، ويعتمد في النقد
الأدبي على الذوق. وللقصد من دراسة البلاغة إلى هذه الغاية الكلامية من أمر
الإعجاز ، نرى الكثير من كتب البلاغة في مختلف الأدوار يحمل هذا في اسمه (كدلائل
الإعجاز ) ، و ( نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز ) ، بل إن قضية الإعجاز قد أثرت
تأثيراً كبيراً في توجيه التأليف في البلاغة ، كما أن لها الفضل الأكبر في مؤلفات
بلاغية بعينها ، وقد استفادت البلاغة من التأثيرات المختلفة للفلسفة،وقد ظهر أثره
الحقيقي بما تلاه من أدوار حياة البلاغة ، فقد أمدتها من أبحاث ، واصطلاحات ،
وعناية رجال، ومن ناحية أخرى نرى أن هذه النشأة قد تركت في البلاغة استعداداً للاتصال بالفلسفة ، فيما بعد ذلك من أيامها،ففي
طور التكوين و الدراسة ، رأينا المدرستين اللتين تولتا بحث البلاغة المدرسة
الكلامية ، والمدرسة الأدبية ، وميزة كل منهما ، وقد كان من أثر ذلك شهادة التاريخ
بوجود هاتين المدرستين أننا جعلنا نفرّق بين طريقتين للدرس البلاغي ، طريقة عملية
هي الصورة الشائعة المتداولة لدرس البلاغة ، وطريقة فنيّة تنمي خواص الدراسة
الأدبية . إن البلاغة تتمنى أن لو لم يكن لها بالفلسفة تلك العلاقات السابقة ، ولم
يكن لها إلا تلك العلاقة العامة ، وهي عناية الفلسفة والبلاغة بالجمال ، فتعمل
البلاغة العمل الصادق في درس الجمال القولي.
ومن القضايا التاريخيّة لإعمال الفكر فيها ، أن جمهرة الذين تولوا البحث في
البلاغة على اختلاف العصور فلاسفة، أو متفلسفين ، وكان لذلك أثره الظاهر في كتبها
، وقضايا مؤرخي الآداب العصريين في تاريخ البلاغة قاصرة تارةً، وغير صحيحة ، فنجد أن
علم المنطق ،وعلم الكلام هما أهم العوامل في نشأة البلاغة ، وقد أشار القدماء إلى
ذلك ، و للقدماء في درس البلاغة طريقتان كلاميّة وأدبيّة ، ولكل طريقة مزاياها ،
وكتبها ، ورجالها ، صلة الفلسفة – ولا سيما المنطق – قد سببت ضيق دائرة بحثها ،
وحرمتها من أبحاث ضرورية ، وصلة البلاغة بالفلسفة جعلت الغاية منها كلاميّة .
أما القضايا الاصطلاحية (تجديدية ) ،فهي أن الدرس التاريخي يهدينا إلى
تجديد نطمئن إليه ، ونثق أن لاتبديد فيه ،وفي دراسة البلاغة بكتبها الأخيرة تقصير
أدبي وديني، كما أنه يجب إبعاد الطريقة الكلامية – أو العلمية – في درس البلاغة ،
وإحياء الطريقة الأدبية .
أما عن صلة البلاغة بعلم النفس، فقد اتصلت البلاغة قديماً بعلم النفس
اتصالاً وثيقاً ، ولو لم يلمح القدماء هذه الصلة ، أو يرتبوا عليها أثرها ، فإذا
ما نظرنا النظرة الأولى إلى البلاغة ، وجدناها ليست إلا تتبعاً لمواقع رضا النفس ،
وعناية بالتأثير فيها ، ومن هنا تتصل بعلم النفس ، وتحتاج في دراستها إليه ، لكن
ليس على هذا البيان الساذج وحده يقوم اتصال البلاغة بعلم النفس بل يتضح ذلك
الاتصال بالنظر الدقيق وسواء في ذلك صنيع القدماء المتفلسفين في البلاغة ، وصنيع
المتأدبين المتفننين فيها ، فالقدماء قسّموا البلاغة إلى تلك الفنون الثلاثة :
المعاني ، والبيان ، والبديع ، وفرقوا بين الذكي والغبي ، والمعاند،و هم يتكلمون
عن الأمزجة الإنسانية في الفضائل البشرية المختلفة ، و أثرها في صوغ العبارات ،
وهم الذين يتحدّثون عن التشويق وطلب الإصغاء ، وهم الذين شرحوا تنادي المعاني ،و
أنواع الترابط فيما بينها ، وهم الذين نسمعهم يتحدّثون عن التخييل ، ولعبه بالنفس ، وعن التخيل . لكن البلاغة لا
تقف عند هذه الحدود الضيقة القديمة ، كما لا يقف علم النفس حيث وقف به القدماء في
فلسفتهم ، والفن القولي تصله بالفلسفة
وشائج قوية ، وقرابة متينة ، إذ الفن والفلسفة يخدمان معاّ فكرة الجمال والجميل .
والفلسفة تعد الجمال شطراً من درسها الإنساني ، وتعدّ الجمال غاية من غايات الحياة الكاملة ، كذلك كان الفن
والفلسفة عاملين قويين في إنهاض الأمم ، وإثارة العناصر الحيّة الطامحة فيها ،
والبلاغة من بين العلوم الأدبية ، هي روح الأدب ، والأدب مادتها ، ومن هنا كانت
البلاغة أحق ما يتأثر بالتغيير في مناهج دراسة الأدب ، وتظهر فيه نواحي التجدد في
الغاية ، والغرض من تلك الدراسة الأدبية ، فلا بدّ من توثيق الصلة بين ذلك الفن
القولي، والخبرة بالنفس ، ويدعم الأساس النفسي للفن ، بأن تقدَّم بين يدي الدرس
البلاغي مقدمة نفسية ، تدرس فيها القوى الإنسانية بعامة وما له من أثر فنّي، فنعرف
عن الوجدان وعلاقته بمظاهر الشعور الأخرى من ناحية عمله الفنّي ، وبهذا الصنيع
النفسي من الدرس ، والمشاهدة اليقظة ، والانتباه المستنبط نكسب مزايا كثيرة ،
وكلما اشتد وَْصلُنا للأدب بالبيئة النفسية ، والجو الإنساني الحقيقي ، خلصنا من
كثير من الآفات التي نشكو اعتداءها على الأدب ، ونستطيع إذا أيدتنا المعرفة
النفسية أن ننظر في الاعتبارات البلاغية نظراً صحيحاً ، لنقبل منها ما نقبل على
أساس واضح ، ونرفض منها ما نرفض عن فكرة صحيحة ، فَنُخَلْصْ دراسة البلاغة من تلك
التعليلات الركيكة المزيفة ، وكم انطوت كتب البلاغة على سخيف النكات التي لا
تتزاحم ، والتي هي ضرب من فكاهة الفقهاء ، ودعابة النفوس الراكدة ، وليست في أصلها
إلاّ فروضاً ذهنية، واحتمالات عقلية ، و أبعد من ذلك و أعمق ، أن تقديرنا صلة
البلاغة بعلم النفس سيهدينا في بحث مسألة قديمة – جليلة الخطر- كانت منذ أول الدهر
، محددة غاية البحث البلاغي ، و موجهة دراسته ، تلك هي مسألة (إعجاز القرآن ) التي
أثرت في البحث البلاغي ، وحياة البلاغة العربية ، كما أن الآراء في الإعجاز
وتعليله كادت تستوفي نواحي القسمة العقلية ، وتدير كل ترديد واحتمال ، فإذا كان
وصل البلاغة بعلم النفس ، وإقامتها على ذلك الأساس الذي يمضي العلم قدماً في الكشف عنه، والتجلية له ، سيهدينا إلى قول
محدث ، أو رأي جديد في فهم الإعجاز القرآني ، فتلك فضيلة لهذا الرأي في حل قضية
الإعجاز الكبرى ، وفكرة الإعجاز النفسي للقرآن الكريم لا تقوم إلاّ على إدراك ما
استخدمه من ظواهر نفسية ، ونواميس روحية
أدار عليها بيانه مستدلاّ وهادياً، ومقنعاً و مجادلاً ، و مثيراً و مهدداّ ، فأصبح
ما يملى عليه هذا التفسير هو القواعد النفسية ، وبعض بيان الإعجاز النفسي في
القرآن ، هذا التكرار الذي قال فيه القدماء و المحدثون ، وقد عرض الجاحظ لهذه المسألة
في كتاب (الحيوان ) ، والقاضي الباقلاني في كتابه (إعجاز القرآن ) ، ثم السكاكي في
كتابه (المفتاح ) ، وكل منهم كانت له آراؤه في التكرار، أشعر أنها لا تزال تفسح
مكاناً لمحاولة تعليل يقوم على اعتبار نفسي إنساني عالمي ، تؤيده شواهد من أحوال
النفس البشرية واتجاهاتها ، من خلال تقديم أمثلة على التكرار ، ولعلّه يصح أن يكون
من وجه ذلك ما يسوقه النفسيون من أن التكرار
من أقوى طرق الإقناع ، وخير وسائط تركيز الرأي ، والعقيدة في النفس البشرية
، إلى آخر ما يسوق علماء النفس على ذلك من شواهد ،ومثل عملية ، تغني عن اختراع الوجوه
في تعليل التكرار القرآني، وجعله مثار الجدل والاختلاف .
أما التفسير النفسي للقرآن ، فنحن أحوج إليه ، لأن هذا الفن القرآني ، وهذا
الموضوع الاعتقادي جانبان من جوانب الحياة الوجدانية ، فقد تكون اللمحة النفسية في
المعنى القرآني أحسَم لخلاف عميق، كثير الشعب بين المفسرين ، وشواهد ذلك كثيرة ،
فمن ذلك ما في تفسير قوله تعالى :( نزل به الروح الأمين . على قلبك لتكون من المنذرين . بلسان عربي مبين ) . فقد ثار حول هذه الآيات خلاف من الأصول البعيدة ، والأسس الغائرة من
البناء القرآني ، فهذا فريق يحتّج بها على نزول القرآن بالمعنى لا باللفظ ، و أن
اللفظ من عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذ لا ينزل على القلب إلاّ المعاني
، وهذه مزلقة إلى إنكار أن يكون لفظ القرآن معجزاً.
ومنكر هذا النزول المعنوي يضطر إلى تناول النزول على القلب ليبين أن معدن العقل هو القلب أو
الدماغ ، و هو ما يعرض له ( الفخر الرازي ) في تفسيره ، ويورد في ذلك آراء القدماء
و المحدثين ، والاستدلال لكل رأي ، وهي مسائل شائكة مظلمة ، لم يقل البحث العلمي
كلمته الأخيرة فيها ،حتى يكون الترجيح لجانب من ذلك، مأموناً مستقراً، لكنّ (
الفخر الرازي ) مضطر إلى أن يرجح ، فيؤثر أنه القلب ليبين كيف يكون النزول على
القلب ، مع أن النزول باللفظ لا بالمعنى فقط . وبذلك المنهج النفسي في فهم حال
المتكلم بلغته ، وحال المتكلم بغيرها، كشف الزمخشري ظلمة الموقف ، و هوّن الأمر
حتى عند من لا يرى أنه حل المسألة حلاً نهائيا ، وبهذا جعل الاحتجاج بالآية على
النزول بالمعنى دون اللفظ يبدو واهنا . إن الصلة وثيقة بين الأدب والخبرة النفسية
، يمتّد حميد أثرها إلى تلك القضية الكبرى في الإعجاز ، وهذا العمل الكبير الخطير
في تفسير القرآن بعدما بدت قوة أثرها في التربية الفنية والحياة الأدبية ، و أنتقل
للحديث عن البلاغة والبيئة المصرية ،فدراسة مصر وبخاصة من الناحية الأدبية ، دراسة
يجب أن نتوافر عليها ، ونمنحها أكبر عنايتنا لأسباب منها : أن الاستقرار التاريخي
الاجتماعي يشهد أن نهضات الفنون على اختلافها تسبق جميع نهضات الأمم ، وموقع مصر
في العالم القديم هيأ لها الاتصال بما حولها من حركات فنية وفلسفية ، وعلميّة ،
والمتصلة بحضارات الدنيا ، المشاركة في تقدمها ، وإذا نظرنا إلى البلاغة في مصر
أثناء القرون : الخامس والسادس وشطر من السابع ، وهو الوقت الذي نمت فيه المدرسة
الفلسفية بالشرق ، و ازدهرت ،وظهرت فيها أمهات مؤلفاتها ، نرى أن مصر في العهد
الذي كانت تخرّج فيه المدرسة الفلسفية أكبر آثارها ، وتدعم قواعدها ، قد درست
البلاغة ، وترك رجالها المصريون فيها كتباً ، نستطيع بالرجوع إليها فَهْمَ روح
المدرسة المصرية للبلاغة في هذا العهد ، ووصفها ، فيصل بنا البحث إلى تقرير نتائج
تفيد أنّ مصر لم تكن تساير المدرسة الفلسفية في المشرق ولا تتبعها ، بل كانت تنفرد
عنها ، وتخالفها ، كما أن الدراسة المصرية
غير المندمجة في المشرق ، كانت أدبية الاتجاه ، عربيّة النزعة ، مخالفة في ذلك
أكثر ما كان في المشرق من نزعة كلاميّة ، وهناك شواهد بيّنة منها : وضوح الرغبة في
إعداد الذوق الأدبي ، واتجاه الدرس البلاغي إلى خدمة القرآن ، والكشف عن وجوه
مخاطباته ببيان حقيقته ومجازه ، واستعاراته ، وفنون بديعة ، وقد خلّف المصريون في
هذه البلاغة الأدبية القرآنية آثاراً ، كما أن عنايتها بالبحث الذي كان أسبق ما ظهر
من أبحاث البلاغة الذي بدأه (عبدالله بن المعتز ) ، كما عنيت مصر بالفنون البديعية
النقديّة عناية واسعة المدى ، بعيدة الأثر ، وفي هذه الناحية من العناية بالبديع
فرق واضح بين المدرستين الكلامية في المشرق ، والأدبية في مصر ، وبذلك كان من
المتوقع أن تتصل المدرسة الفلسفية ورجالها بمصر ، وهو ما كان بعد القرن السابع ، و
أن تظهر آثار مصر في تلك المدرسة ، من حيث المشاركة القوية ، الواضحة الجدوى على
حياة تلك المدرسة ، ورجالها ، ومؤلفاتهم ، والتوجيه الخاص الجديد لتلك المدرسة
توجيهاً انتهى إلى ظهور مدرسة مصريّة لها خصائص واضحة ، فمصر هي التي حفظت المدرسة
الفلسفية المشرقية ، وقامت على إحياء كتبها وخدمتها ، فألف علماؤها الكثير من
الشروح ، والحواشي ، والتقارير ، وقد ظهرت مدرسة مصريّة مستقلة في البلاغة ، وهذه
المدرسة كانت تجنح إلى مجافاة الفلسفة ، وقد تكون هذه المجافاة ظاهرة في أصاب
العلوم الدينية و الأدبية ، وقد تجلى أثر هذه الكراهية في البلاغة بأمرين : هدف
دارسوا البلاغة إلى أبعاد الفلسفة عنها ، وطرحوا الوجوه
الفلسفية في فهم التراكيب ، وعصبيتهم للعرب، و تطولّهم على اليونان ، ومن آثار هذه
المدرسة المصرية البلاغية كتاب (عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح ) للبهاء
السبكي ، في هذا الكتاب صورة كاملة
للمدرسة المصريّة ، وفيه البيان الأوفى لخصائص تلك المدرسة ، وهو خلاصة
صافية ، ومزيج لبق من الأبحاث الفلسفية الكلامية ، و الأبحاث الأدبية الذوقيّة ،
والروح الفنيّة الصحيحة ، مع ظهور شخصية صاحبه ، وتجلّيها في البحث والتحقيق ، كما
امتاز هذا الكتاب ببسطة القلم ،وطول النفس ، كما أنه سرد كتباً منها النادر الآن ،
ومنها المفقود الذي لم نره ، فمن ذلك : بديع المعتز ، وسرّ الفصاحة للخفاجي ،
وإعجاز القرآن للرماني ، وقوانين البلاغة لعبد اللطيف البغدادي .
الخاتمة:
وبعد... فهذه وقفة موجزة مع فصل من فصول كتاب ( مناهج تجديد في النحو
والبلاغة والتفسير و الأدب ) ، هو فصل (البلاغة ) والتي تعدّ من أجمل و أهم الفنون
القوليّة ، فقد وضّحتُ مفهومها مقارنة بالفصاحة ثم توقفت عند نشأتها من خلال
الأدوار و المراحل التي مرت بها ، بدءاً من مرحلة البداوة ، وانتهاء بالدور
الدراسي أو ما يسمى بالدور العلمي ، وعرضت للنواحي الثلاث التي يقوم عليها البحث
البلاغي ، وهي مفهوم البحث ، والرجال والمؤلفات باختصار ، ثم توقفت عند الكتاب
الذي أثار جدلاً حوله ، وكان للقدماء و المحدثين رأي فيه ،وهو كتاب (مجاز القرآن )
، و وضحت أثر الفلسفة وعلم النفس على البلاغة ، فقد اتضحت رؤية البلاغة من خلال
بيان أثر و دور الفلسفة وعلم النفس ، فقد نشأت وتطورت البلاغة في أحضانها، وقد
ظهرت المدرستان الكلاميّة والأدبيّة ، وكانت لهما خصائص ، ورجال ، و مؤلفات ، وقد
برزت قضية إعجاز القرآن ، وظهر ما يسمى بالتفسير النفسي للقرآن ، و أخيراً أوجزت
الحديث عن البيئة المصرية و أثرها في البلاغة ، فكانت هناك مدرسة مصريّة في
البلاغة لها طابعها الخاص ، ومميزاتها المنفردة.
التعليق:
جهود مشكورة للمؤلف على طرحه موضوعاً هاماً شائقاً ، وهو البلاغة ، فقد
تناوله بإسهاب ، موضحاً أن البلاغة لم تنشأ في القرن الثاني الهجري ،بل كانت هناك
إرصادات و مؤشرات هيأت لها التربة الخصبة لتنمو ، وهي مرحلة البداوة ، ثم العصر
الإسلامي ، و الأموي ، و إن كانت في تلك المراحل مازالت غضّة ، كما كشف الضوء على
أثر الفلسفة و علم النفس في نشوء البلاغة ، وهذه حقيقة ربما جهلها الكثيرون ، أو
كانت معارفهم عنها ضحلة ، ثم تناوله للمدرستين اللتين ظهرتا وهما: المدرسة
الكلاميّة و المدرسة الأدبيّة ، وخصائص كل منهما ، والرجال الذين ينتسبون إليهما ،
مع المؤلفات يعدّ خطوة هامة نحو البحث في تلك المؤلفات ، و إعداد رسائل علميّة
حولها ، ثمّ تحدّث عن دور مصر في ازدهار البلاغة مشيراً إلى المدرسة المصريّة
المتميزة بخصائص ، والتي تختلف إلى حدٍ ما
عن المدرستين الكلاميّة والأدبيّة . ثمّ إن طريقة عرض المؤلف لموضوع
البلاغة كانت مناسبة ،حيث اتّبع التسلسل و الترتيب المنطقي في عرضها ، إضافة إلى
الشواهد التي ذكرها دعّمت الفكرة ، ولم يبخل بعرض آرائه أحياناً بشكل موضوعي . وهو
في ذلك يمتلك ثروة لغوية استطاع أن يوظفها بشكلها الصحيح ، وفي مكانها المناسب ،
وخلاصة القول أنني استفدت كثيراً من هذا الموضوع.