الاسلوبية النحوية الصرفية - قصيدة سقوط الأقنعة للشاعر سميح قاسم

المقدمة:

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد الخلق أجمعين وهادي الأمة إلى صراط الله المستقيم، وبعد:

1-   مفهوم الأسلوبيّة :أورد المحدثون عدداّ قليل من التعريفات للأسلوبية ،وتحديد مفهومها، غير أنه أول ما يجب أن أقف عليه من هذا التعريف الذي وضعه مؤسس هذا العلم (شال بالي ) حيث عرفه" بأنه العلم الذي يعنى بدراسة وقائع التعبير في اللغة المشحونة بالعاطفة ، المعبرة عن الحساسية الشعورية "(1)

2-   اتجاهات الأسلوبيّة : والواقع أن الأسلوبية قد تمثلت في العديد من الاتجاهات ، ومنها الأسلوبية التعبيرية ، والأسلوبية البنائية ،والأسلوبية الإحصائية ، والأسلوبية اللغوية ، والأسلوبية الوظيفية ، والأسلوبية الأدبية ، والأسلوبية التأثيرية ، وأسلوبية الانزياح .

ومادامت الأسلوبية تأخذ مفهومها من الجهة التي تبنتها ،فإن مفهومها يتعدد بتعدد تلك الجهات ، ويكون محدداّ بحسب هذه الجهة ،أو تلك . وإن تنوع الاتجاهات الأسلوبية ،وما تبعه من تنوع في مناهجها بين التوجه إلى كشف اجتماعية اللغة أو تعبيريتها ،ودراسة التكوين الأسلوبي وظروف تجربته ، ومحاولة دراسة بنية النص كما يقدمها المؤلف ،كان نتيجة لاختلاف وجهة نظر الأسلوبيين في الانطلاق من زوايا مختلفة في النظر إلى تحديد الظاهرة الأسلوبية التي تقوم عليها تحليلاتهم ، وكانت نقطة الاشتراك في أعمالهم جميعاً في انطلاقهم من النموذج التواصلي في التحليل.

3-   دراسة التعبير اللغوي في الأسلوبية الوصفيّة : "ينطوي التعبير اللغوي على عناصر ومستويات من التحليل ،مستمدة من الدراسات اللسانية التي أرسى قواعدها (دوسوسير) وطورّها (بالي ) أسلوبياً ، ويتفاعل التحليل الأسلوبي مع عناصر مختلفة في إطار الدراسة الوصفية ، وهي:العنصر اللغوي، والعنصر النفعي المتمثل في القارئ ، والمؤلف، والموقف التاريخي والهدف ، والعنصر الجمالي الأدبي، وهو ما يكشف عن تأثير النص على القارئ ، وعن التفسير و التقويم الأدبيين "(2)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)في الأسلوبيات،د.زين كامل الخويسكي،دار المعرفة الجامعية،2009،ص17

(2)علم الأسلوب ،صلاح فضل ،الهيئة المصرية العامة للكتاب ،ط2،القاهرة 1985.

وتتعامل مستويات الدراسة الأسلوبية للتعبير اللغوي مع أنظمة اللغة بوصفها نظاماً اجتماعياً تواصلياً ، على نحو يجعل دراسة التعبير اللغوي تقع ضمن المستويات الصوتية والصرفية والمعجمية والنحوية والدلالية . ولمّا كان تحليلي للنص الشعري يقوم على الأسلوبية الصرفيّة ، والأسلوبية النحوية ، فإنني سأتحدث عنهما :

أ‌.       الأسلوبية الصرفية : تتصل الأسلوبية الصرفية بالقدرات التعبيرية الكامنة في الكلمة الواحدة ، ويعمل هذا النمط من البحث الأسلوبي على فحص الكلمة المفردة من جهة الصياغة والاشتقاق ، وتطرح الكلمة المفردة بمستوياتها الصوتية والصرفية والدلالية عاطفة أو فكرة ، فمثلا تكتسب صيغ التصغير والتحقير ،والهزل والسخرية ، وغيرها من الصيغ دلالات أسلوبية جديدة في سياق تعبيري .

ب‌.  الأسلوبية النحوية : تعمل الأسلوبية النحوية على اختيار القيم التعبيرية للتراكيب ضمن ثلاثة مستويات :مكونات الجملة ، الوحدات العليا التي تتألف من جمل بسيطة ،ويجري هذا الاختيار على الأساليب النحوية التي ينطوي عليها النص الأدبي ،كالندبة ،والتعجب،والترخيم وغيرها .(1)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)     الأسلوبية الرؤية والتطبيق ،د.يوسف أبوالعدوس ،دار المسيرة للنشر والتوزيع والطباعة ،عمّان،ط:1،2007،ص104

قصيدة : (سقوط الأقنعة ) لسميح القاسم

سقطت جميع الأقنعة
سقطت..فإما رايتي تبقى
وكأسي المترعة
أو جثتي والزوبعة
سقطت جميع الأقنعة
سقطت قشور الماس عن عينيك
يا رجلا يصول بلا رجولة
يا سائقا للموت أحلام القبيلة
سقطت تماثيل الرخام
سقطت دموعك يا تماسيح التواريخ الطويلة
وأبراج الصخور الخادعة عشرين عام:

"أنا يا ضمير الأرض أبراج الحمام"
سقطت أغانيك الحزينة
والأساطير الذليلة
يا حالما بالأرض خادمة مطيعة
تعطيك من أختامها ما شئت
تكريسا لشهوتك الوضيعة
سقطت ممزقة على درب الرياح الأربعة
سقطت.. جميع.. الأقنعة!
فلأي رب بعد هذا تلجأ؟
أي رب،
سيبارك الناب ، والنصل الممزق لحم شعبي؟
منذا يبيعك صك غفران
ونابك في ذراعي
يا من تخاف من الشعاع
يا من يعز عليك نبض الخصب،
في أرض الجياع
يا كلب صيد الكرش والغليون
يا سمسار ناطحة السحاب
يا حارس النفط المدلل
بين أحصان الذئاب؟!

جعلوا شراييني أنابيبا
لبترول الغزاة القادمين من الضباب
جعلوا شراييني أفاعي
جعلوا شراييني حبالا
كبلت شعبي الجريح إلى النخاع
وحفرت من ملكوت بئر النفط
دربي للشعاع
يا من تخاف من الشعاع
ونهشت بالأسنان بالأسنان
جدران الظلام
وهتفت بالجيل الممزق عبر بيداء الضياع:
باسم الحياة إلى الأمام
إلى الأمام إلى الأمام.
ويجيء نصلك في الظلام
وأشد خاصرتي ، وتبقى جبهتي،
فوق الرغام
وتظل تصرخ:
"يا ضمير الناس ، من يحمي من العرب الرعاع
بيت الحزانى العائدين من الضياع؟"
وتشد نابك في ذراعي
وأنا أشيّد سدي العالي..وأحلم
بالمدارس والمصانع والمراعي
يا من تخاف من المدارس والمصانع والمراعي
من حفنة القمح المبلل بالدموع وبالدماء
للكادحين من الصباح إلى المساء
للثائرين من الجياع!


سقطت جميع الأقنعة
سقطت..فإما رايتي تبقى ،
وكأسي المترعة
أو جثتي والزوبعة
مجلس وروايتي يا الأمن الموقر
أصبحت عشرين فصلا
وروايتي يا الأمن الموقر
أصبحت عشرين ليلا
عشرين زهرة برتقال
ذبلت على دوّار قريتنا المهينة
عشرين زهرة برتقال
جابت طوال الليل أرصفة المدينة
عشرين قافلة حزينة
خرجت مطأطأة الجباه
للشرق أذكر للجنوب وللشمال
خرجت تفتش عن إله
عشرين زهرة برتقال
ذبحت هناك.. بلا قتال
وأنا ألوب في حمّى عذابي
متمزق القدمين..من باب لباب
وجهي احتقان محارب
أنسوه تاريخ الحراب
ووجوه أطفالي صحون فارغة


ناديت من عشرين عام
يا مجلس الأمن الموقّر – آه –
من عشرين عام
واليوم، عبر صواعق متربّصات بالسلام
صوتي يجيئك بالبريد
من غابة الدم والحرائق والمرارة والخيام
صوتي يجيئك زهرة حمراء
في العام الجديد
من يأتي بيتي قاتلا
يرتدّ عن بيتي قتيلا!
يا مجلس الأمن الموقر
صوتي يجيئك زهرة حمراء،
من حقل الجريمة
فإلى اللقاء ..إلى اللقاء..
يا مجلس الأمن القديم
أراك في القدس القديمة(1)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)سميح القاسم،الأعمال الكاملة ،الدار الوطنية للنشر والتوزيع،بغداد،2001م،ص124-127

تحليل النص أسلوبياً

1-  الأسلوبية الصرفية:

-الأفعال:

الفعل الماضي: لقد تكرر الفعل الماضي في القصيدة على النحو الآتي:

سقطت ،جعلوا ،نهش،هتف ، أصبح ،ذبل،جاب ،خرج ،ذبح، نادى ،نسي. جاءت هذه الأفعال الماضية مرتبطة بالوظيفة الذهنية ،لأنها تبرز أفكاراً وحقائق للعيان .

الفعل المضارع: يصول،تبقى ،تعطي،يبيع،سيبارك،تلجأ،تخاف،يجيء،أشدُّ ،تظل، يحمي،تشدّ،أشيدّ،ألوب،يأتي،يرتدُّ.لقد جاءت الأفعال المضارعة أكثر تنوعاً وعدداً من الأفعال الماضية ،وهذا يفسر أن الشاعر يهدف إلى إبراز تأثير الحاضر والمستقبل من هزيمة العرب في حرب 1967م، وأن هذه الهزيمة قاسية تركت آثاراً مستديمة ستبقى ماثلة للعيان.

أما فعل الأمر، فقد غاب عن القصيدة ، وربما يعود ذلك إلى أنّ الأغراض الطلبية المتمثلة في فعل الأمر ليست مجال استخدام في غرض يعرض فيه الشاعر حقائق ماثلة بسبب هزيمة 1967م.

-الضمائر:

أكثر الشاعر من استخدام ضمير الخطاب أكثر من غيره فالقصيدة ،لأن هذا الضمير يعبّر عن الوظيفة التأثيرية التي تنسج مع الفكرة السابقة ،مع أن زلزال الهزيمة ذو أثر بالغ على الوظيفة التأثيرية لدى الشاعر.

-الاشتقاق:

جاءت الأسماء المشتقة قليلة مقارنة بالأسماء الدالة على ذوات ،لأن الذات هي المحور الذي تدور حوله أركان القصيدة ،المتمثل في ذوات:هي،وأنا ،وأنت ، والاستعمال اللغوي للأسماء المشتقة يكون في الغالب لتقرير صفة لأسماء ذوات.

-الجناس:

جاء موزعاً بصورة شبه منتظمة في نهاية كل تفعيلة ،ليحسّن من الإيقاع الموسيقي ،وليعمل على إيجاد توازن توزيعي صوتي رائع بين كل مقطع وآخر ،ومن الأمثلة الدالة على ذلك :

سقطت جميع الأقنعة

أو جثتي والزوبعة

وأبراج الصخور الخادعة عشرين عام

أنا يا ضمير الأرض من أبراج الحمام

2-الأسلوبية النحوية :( بناء الجملة في القصيدة )

أولاً: الجملة الاسمية :

وتنقسم إلى قسمين :البسيطة وهي التي خبرها مفرد ، والمركبة :وهي التي خبرها جملة .

أ.البسيطة : أنا يا ضمير الأرض أبراج الحمام- ونابك في ذراعي –وجهي احتقان محارب-ووجوه أطفالي صحون فارغة.

ب.المركبة: يا ضمير الناس ، من يحمي من العرب الرعاع ، بيت الحزانى العائدين من الضياع؟

- وروايتي أصبحت عشرين فصلاً...عشرين ليلاً ...صوتي يجيئك بالبريد.

- صوتي يجيئك زهرة حمراء..في العام الجديد..من يأتي بيتي قاتلا .. يرتدّ عن بيتي قتيلا!

ثانياً: الجملة الفعلية :

سقطت جميع الأقنعة – سقطت  - فإما رايتي تبقى

سقطت جميع الأقنعة – سقطت قشور الماس – سقطت تماثيل الرخام

سقطت دموعك – سقطت – سقطت أغانيك

تعطيك من أختامها ما شئت – سقطت ممزقة –سقطت جميع الأقنعة

سيبارك الناب ، والنصل الممزق لحم شعبي؟  - جعلوا شراييني أنابيبا

جعلوا شراييني أفاعي – جعلوا شراييني حبالاً – كبلت شعبي الجريح

وحفرت...دربي للشعاع- ونهشت ...جدران الظلام- وهتفت بالجيل الممزق

أما أنماط الفعل :

أ.اللازم: سقطت ،تبقى ،تلجأ ،هتفت ،يجيء،ذبلت ،باتت، خرجت.

ب.المتعدي:تعطيك،جعلوا،حفرت ،نهشت،تشيد،أراك.

ثالثاً:المشتقات:

-اسم الفاعل:سائق،حالم،فاطمة،حارس،قادمين،فارغة،متمزق.

-اسم المفعول: مُمزَّقة ،المدلل،الممزَّق، المبلل.

-الصفة المشبهة : الحزينة ، ذليلة ،مطيعة ، وضيعة ،مهين ،قديم ،قتيل، حزانى  (جمع  حزين ).

-اسم المكان:مدارس ،مصانع ،مراعي.

رابعاً: الأساليب:

-       الشرط: فإما رايتي تبقى – من يأت بيتي قاتلاً يرتد عن بيتي قتيلاً.

-       الاستفهام: من يحمي من العرب الرعاع بيت الحزانى العائدين من الضياع؟

-       النداء: يا رجلاً ، يا سائقاً، يا حالماً،يا من تخاف من الشعاع، يا ضمير الناس ، يا من تخاف من المدارس ،يا مجلس الأمن الموقر ، يا مجلس الأمن القديم.

خامسا:الروابط:

-       الواو: وكأسي المترعة ، سيبارك الناب والنصل الممزق، كبلّت شعبي و حفرت ، ونهشت ، وهتفت ، بالمدراس والمصانع والمراعي...

-       أو: فإما رايتي تبقى ....أو جثتي.

-       الذي: (ذا) منذا يبيعك صك الغفران.

-       ال: الخادعة عشرين عام.

سادساً : الترتيب:

-       جاء الفصل بين المتلازمتين في عدة تراكيب :

أ‌.       بين المبتدأ والخبر :أنا – يا ضمير الأرض – أبراج الحمام

ب‌.  بين الفاعل والمفعول: تعطيك – من أختامها – ما شئت.

                    وحفرت- من ملكوت بئر النفط- دربي للشعاع.

                   ونهشت- بالأسنان – جدران الظلام.

ج.بين الفعل اللازم والحرف الذي يتعدى به : سقطت- ممزقة – على درب الرياح الأربعة.

الخاتمة:

وبعد ، فإن الأسلوبية استطاعت أن تخترق مكونات النص الأدبي و تستظهر ما فيه من خصائص أسلوبية تساهم في بناء مجال دلالي تحرص الأسلوبية على وضعه ضمن اهتماماتها.

وقد توصلت إلى أن لكل نص خصائصه الأسلوبية المستقلة ، فما يكون في هذا النّص قد لا يكون في نص آخر، وعليه فإن اختلاف الخصائص الأسلوبية و توظيفها يؤدي دلالة معينة تكشف الأسلوبية عنها ليجد القارئ فيها معاني أخرى لم يكن يتصورها لولا التعامل مع النص أسلوبياً ، ولعل الشيء الأهم الذي لاحظته في دراسة هذا النص هو أن الخصائص الأسلوبية جميعاً جاءت مرتبطة بالنسيج العام للنّص ، وما توظيفها فيه و الإتيان بها إلا للإحاطة بالموضوع و الأفكار المراد التعبير عنها ،وتقديمها بشكلها الأقرب لما يجول في خاطر الشاعر ،وبذلك يكون المنهج الأسلوبي قادراً أكثر من غيره في التعامل مع نصوص كهذه إذ يكشف عن مكنونات وخفايا قد لا تبلغ إلا بوساطة الأسلوبية.

وهكذا يبدو النص الأدبي بفضل الأسلوبية صورة مشرقة متكاملة، يحدد أهم الملامح التي يبني الشاعر معانيه وفقها.