Sunday, January 17, 2016

تلخيص فصل البلاغة من كتاب مناهج تجديد في النحو والبلاغة والتفسير والادب


المقدمة:
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد الخلق أجمعين وهادي الأمة إلى صراط الله المستقيم، وبعد:
البلاغة في اللغة شيء بالغ ،وأمر بالغ أي جيّد ، ويشــتهر تعريف البلاغة بأنها مطابقة الكلام لمقتضى الحال مع فصاحته ، والبلاغة في الكلام مرجعها إلى أمرين :
الأول :الاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد ، وتمييز الكلام الفصيح من غيره، والثاني : هو تمييز للفصيح منه ،كما في علم متن اللغة ،أو علم الصرف ، أو النحو على أن الفصاحة توصف بها الكلمة، والكلام، والمتكلم، وأنها تكون بدون البلاغة ،وأن البلاغة يوصف بها الكلام والمتكلم دون الكلمة المفردة ، ولا تكون بدون الفصاحة ، و مجيء الإسلام معجزة قولية هي القرآن ، ودخول غير العرب في الإسلام ، احتاج المسلمون إلى أن يتعرفوا إعجاز القرآن ،و اضطروا إلى بحث ودراسة لذلك، فصارت معرفة البلاغة أمراً دينياً كلامياً يقرر حجة الله في عقول المتكلمين، وقد اعتمدت الحياة على القرآن كتاب الإسلام، فكان مصدر التشريع ، وأساس الأخلاق ،وقد كان للكتّاب في مؤلفاتهم أثر واضح في حياة البلاغة ، وقد استطاعت الفنون أن ترقى جميعاً، وقد كان للفن القولي نصيبه من النهوض ، واتجه شعراء المولدين إلى الاختراع والإبداع ، ومعرفة طرق إدراك جيّد الكلام ، وكيف يكون التفريق بين كلام جيّد ،و آخر رديء، أو الاقتدار على صنع كلام جيّد، قصيدة منظومة ، أو نثراً مرسلاً ، وتلك هي الدراسة البلاغية التي يتبين مؤرخها الدقيق تلك العناصر المختلفة في نشأتها وتدرّجها ، ويميزها واضحة في أبوابها ومسائلها .                                                     
ومضت الدراسة البلاغية تتقلب بها المناهج، وتؤثر فيها البيئات ،وتتأثر بالثقافة الإسلامية العامة ، من أصيلة ودخيلة،وقد اختلفت مناشئها ، والتقت فيها موارد متعددة ،ومؤرخ البلاغة يجد من مذاهب هذه الدراسة ، ومدارسها ، ما يحسن تتبعه ، وقد أدرك القدماء أنفسهم وجود بلاغتين ، سمّوا الأولى البلاغة على طريق العجم ، وأهل الفلسفة ، وسمّوا الثانية البلاغة على طريقة العرب والبلغاء ، ولكل مدرسة رجالها مما تتسع لمؤرخ البلاغة مجال تتبعه ، وفحصه . وازداد تنسيق علوم الأدب، فوصلت إلى اثني عشر علماً، لوحظت في ترتيبها اعتبارات خاصة ، وبالطريقة المنطقية نفسها حصروا أبحاث هذه العلوم ، وقالوا في المعاني إنه في ثمانية أبواب ، وشرحوا وجه انحصار علم البيان في التشبيه والمجاز والاستعارة والكناية، وانحصار البديع في قسمين: التحسين المعنوي، والتحسين اللفظي. وللبلاغة اليوم حركات تجديدية ، ومن هذه الحركات ما هو موفّق، ومنها  ما هو طائش غير مسدّد، والتجديد الأدبي يرمي إلى غرضين :قريب ، وبعيد، فغرض القريب هو تسهيل دراسة المواد الأدبية ، وهذا الغرض يحققه المنهج الصالح ، والكتاب الملائم ، والمعلم الكفء ، وأما الغرض البعيد من التجديد في علوم الأدب أو علوم العربية ، فهو أن تكون هذه الدراسات الأدبية مادة من مواد النهوض الاجتماعي تتصل بمشاعر الأمة ، وتساير حاجاتها الفنية المتجددة ، ولا يتحقق هذا الغرض إلاّ بتغيير قد يمسّ الأصول والأسس البعيدة ، ويدّخر له العزم والجهد حتى تصير اللغة جزءاً من كيان الأمة، وجانباً من وجودها العملي، ولا تفترق اللغة في حال عنها في أخرى ،إلاّ بقدر ما تتطلب الفنية ، والعمل الأدبي ، فمن حيث وصل البلاغة بالحياة الأدبية ، وجعلها دراسة ذات جدوى عمليّة يكفي بأن نأخذ برأي القدماء حينما كان أبو هلال العسكري يقول : إنّ صاحب العربية يستطيع بعلم البلاغة أن يفرق بين كلام جيّد وآخر رديء ، ولفظ حسن ،وآخر قبيح ، ومن حيث إخضاع البلاغة للمنهج الأدبي الفني في الدراسة يكفي أن نحيي منهج بحث ( المدرسة الأدبية ) ، وآثارها وكتبها ، ونبدأ البحث البلاغي المستوفى من اللفظة المفردة ، فنبحث فيها الأسلوب ، واختلافه ، وأوجه تفاوته، ومزايا أنواعه المختلفة ،وحين نستبعد ما حشدته طريقة المعجم ،و أهل الفلسفة في البلاغة من مقدمات منطقية ، واستطرادات فلسفية مختلفة ، تضم إلى البلاغة مقدمة فنيّة تعرّف الدارس فيها بمعنى الفن، وطبيعته ، ونشأته ، وغايته، وأقسامه ، نضم إلى تلك البلاغة مقدمة نفسية ، تعرّف الدارس بالقوى الإنسانية ذات الأثر في حياته الأدبية .                                                     







التلخيص:
يقوم التاريخ العلمي الصحيح للبلاغة العربية على دراسة ذات نواح ثلاث: الأولى : تاريخ مسائل المادة وقضاياها ،تاريخاً يصف نشأة المسألة ، وبدء ظهورها ، ثم تدرّجها،وأين استقر بها الأمر أخيراً ، والثانية : تاريخ المفكرين، وقادة الرأي من أصحاب المذاهب، والآراء المتميزة في حياة المادة ، بحيث نرى في هذا التاريخ شخصية أولئك الرجال في هذه المادة ، و نوع تناولهم لها ، و أثرهم فيها ، فجنسيّة الرجل منهم ، وبيئته وثقافته ، ومزاجه ، يؤثر في تناوله لمسائل المادة وتفكيره في موضوعاتها ، و الثالثة :تأريخ التأليف و المؤلفات في المادة ، فالرجل بما يفكر ويقررّ ، قد يكون غير الرجل بما يكتب ويدوّن ، وما يكتبه المؤلف يتلقاه عنه متلقون ، يختلف فهمهم له ، وهكذا نحتاج إلى أن نؤرخ ما في المادة تأريخاً، وبذلك يقدر كل كتاب في تاريخ المادة بقدره، وينزل المنزلة اللائقة به ، ولا تؤرخ الكتب تأريخاً حقاً ، إلاّ يوم ترد كل مسألة فيها إلى أصلها في تفكير المؤلف،ثم يربط بينها وبين صورها المكررة ، أو ما تخلّف عنها من آثار في نفوس الخالفين بعد مؤلفها . تلك النواحي الثلاث  ربما لا يسهل على الدارس أن يلتزم فيها ترتيباً بعينه ، لأنها متداخلة متصل بعضها ببعض إن أقصى ما انتهت إليه سعة كلمة البلاغة ، هو الدلالة التي تمكن التفريق بين الجيّد والرديء من القول، وتعين على صنع هذا الجيّد من صناعتي النثر و الشعر ، و نجد أن المتقدمين يشيرون إلى تسمية علم البلاغة و توابعها بعلم ( نقد الشعر ) ، و ( صنعة الشعر ) ، و ( نقد الكلام ).                                                                  
مرت البلاغة العربية بأدوار متعددة بدءاً من مرحلة البداوة ، وانتهاءً بدور الدراسة ، أما مرحلة البداوة ، فالصحراء العربية كانت زاخرة أيام الجاهلية بهذا الصنيع الذي سمي فيما بعد بلاغياً أو بيانياً ، وكان لهؤلاء البداة في أوقات السلم مجامع وسوامر، يختلفون إليها ليلاً ونهاراً ، فينشدوا الشعر، ويتحدثوا بما قال الخطباء ، وكانوا  و هم  أهل العصبيّة يتفاخرون ، وعدتهم في ذلك القول المنمق ، والفن المؤيد من ألسنة الناطقين ، كان تناولاً فطرياً بادياً على الطبيعة الشاخصة ، والبيئة المشهودة ، يحتكم فيه إلى ذوق فطري ثم جاء الإسلام ، و آثرَ معجزة من الفن القولي ، و الإبداع الكلامي ،هي القرآن ، وهكذا كانت الدعوة الإسلامية عملاً بلاغياً قوياً ، إذ اعتمدت على حكم نقدي، وقامت على رأي في الفن القولي، تنتهي به إلى أن هذا الصنف من الكلام العربي مثال لا يحتذى ، وكان  مجال النقد الأدبي في العهد الجديد ، أوسع مما كان في الجاهلية ، فكانت الحياة الجديدة تقوم بلغة تنهض كذلك وترقى ، وكانت اللغة بهذه الحياة فرصاً للرقي والتقدّم . وفي العهد الأموي كانت الدولة عربية السياسة و الحكم ، تعمل للاحتفاظ بالروح العربية واحتاجت في تمدينها إلى من يحفظ على أبنائها روح العربية ، فظهرت طبقة المؤدبين الذين كان عملهم رواية الشعر و الأنساب و الأيام للناشئة المتمدينة ، ويملون عليها من ذلك ما يملون ، ويأخذونهم بحفظها وروايتها. وفي طبقة (المؤدبين ) أول تغيير يدخل على منهج الدراسة الفطرية ، إذ أخذوا يقاومون عوامل إضعاف الروح العربية ، ويحاولون تحليل أحكامهم النقدية ، وقد تكلم أولئك المؤدبون في معنى الفصاحة ، والبلاغة ، وحاولوا إيضاح مفاهيم هذه الأشياء ، ومن مظاهر هذا التغيير في المنهج البلاغي ، ما خلفّه أولئك المؤدبون من مكتوبات ،نستطيع أن نرجح أنها لم تُجاوز الرسائل الخفيفة ،تحمل عناوين بلاغية ، مثل كتاب (المعاني ) . وفي هذا العصر الأموي ، وأوائل العباسي ، نجد العوامل الاجتماعية تعمل عملها في إعداد عصر جديد ، والتهيئة لتغيير واضح ، يقود إلى المرحلة الرابعة وهي (الدور الدراسي)، أو ما يسمى(بالدور العلمي)، وقد بلغت الدولة والحياة في القرن الثاني مبلغاً بنماء الرغبة في العلم ،والإقبال على صنوفه المختلفة ،فيتوزع نشاط الجماعات والأفراد ، أعمال من هذا النوع يكبّون عليها جادين ، في ألوان من النشاط الواثب ، وهكذا مضت هذه الجماعات الجديدة والدولة الناشئة ، تستوفي في حظها بصنوف من الدرس، مختلفة الألوان ، يأخذ هذا من ذاك ، ويعطي الثاني الأول ، وعلى الباحث أن يؤرخ صورة ما  ،من صور نشاط الحياة ، أن يقدر هذا كله ، ويلتمس مصادر نماء ما يؤرخه . ومن هنا نلتمس نشأة البلاغة في أكثر من ناحية ، وعند عديد من الجماعات الدارسة ،والبيئات الخارجيّة مما يظن بادئ في بدء ألاّ صلة لها بهذه الظاهرة ، وهذه وقفة لدفع وهم سائد ،و قد توهّم أصحاب الأوليات ،فعدّوا أشخاصاً بأعيانهم ،أو ذكروا مؤلفات بأسمائها ، على حين كان ذلك عمل جيل سابق أو أكثر هو الذي أنضج ما أتى به هذا الشخص ، واحتوى عليه ذلك الكتاب . وعن الأوليات البلاغية ، فإن أول ما ألف في البيان هو كتاب (مجاز القرآن ) لأبي عبيدة معمر بن المثنى ، وقد ازدحمت حوله أقلام المحدثين من أبناء هذا العصر ،كما أسهب القدماء وبيّنوا فضله ، لكن المحدثين قد اختلفت نظرتهم إلى هذا الكتاب ، فكانت لهم آراء في الكتاب ، فالدكتور طه حسين يرى أن لفظ (المجاز ) عند أبي عبيدة لفظاً مبهماً غير محدود ، فكتابه كتاب في اللغة ، توخّى فيه أبوعبيدة أن يجمع الألفاظ التي أريد بها غير معناها الوضعي من غير أن يفرّق بين أنواع المجاز ، وكاتب آخر هو الأستاذ إبراهيم مصطفى عرض لكتاب أبي عبيدة الذي رأى أن استعمال أبي عبيدة للبلاغة ليس إلاّ مناظرة لكلمة النحو في عبارة غيره من علماء العربية ،ثمّ وصف ما في الكتاب ، واقتبس منه اقتباساً متكثراً ، كما أن صاحب (ضحى الإسلام ) أحمد أمين لم يعرض لشيء من الحديث عن كتاب (مجاز القرآن ) فيما كتبه عنه، ممّا يشبه الترجمة لأبي عبيدة، مع أنه تحدّث عما تركه أبوعبيدة من الكتب . ويبدو أن أقربهم إلى الصواب في وصف مجاز القرآن لأبي عبيدة هو الدكتور طه حسين بقوله عما قرأه منه ، توخّى فيه أبوعبيدة أن يجمع الألفاظ التي أريد بها غير معناها الوضعي من غير أن يفرّق بين أنواع المجاز ، و أما عدّه كتاب نحو ، فضرب من التكلف . ولئن طال القول في تحرير معنى المجاز في تسمية أبي عبيدة ، واستعماله فما ذلك إلاّ لبيان نشأة المصطلحات البلاغية ، أما قول القدماء في كتاب (مجاز القرآن ) فما كان بين المؤلف و أبناء عصره ، ما يكشف عن غرض المؤلف جلياً ، ولكن من القدماء من ينظر إلى كتاب المجاز ، ويعده من كتب المجاز بمعناه البلاغي ، وخاصة أصحاب أصول الفقه ، حينما يتحدثون في مقدمتهم اللغوية ، ثم يعرض (ابن تيمية ) لكتاب المجاز ،يتصدى ومراد صاحبه من اسمه ، إذ يتصدى في حديثه عن دلالة الإيمان على الأعمال إلى أن هذه الدلالة حقيقة لا مجاز ، لحدوث هذا الاصطلاح ، وكما نظر إليه (الأصمعي ) حين عاب على أبي عبيدة قوله في القرآن برأيه ، وهكذا يبدو اطمئنان القدماء إلى أن كتاب مجاز القرآن لأبي عبيدة من كتب التفسير .وهكذا ندرك أن أواخر الدور الفني في حياة البلاغة قد كانت أوائل الدور العلمي ، ويمكن توزيع البحث البلاغي في صورته التي يستحق بها هذه التسمية ،فإنه يُوزع على المناحي الثلاثة الآتية : البحث ،والرجال ، والكتب. أما البحث فإنه تأثر بالمؤثرات المختلفة من ثقافات ، و أمزجة ،و تيارات ، ما يشير إلى اتجاه التطور ،ويدلنا البحث على صلة البلاغة بالفلسفة على الجانب الواضح من صلة الكلام بالفلسفة ، وهناك قضيّة إعجاز القرآن ، وهكذا تتسق صلة المتكلمين المتفلسفين بالبلاغة عن طريق تفردهم تقريباً بخدمة هذه القضية الكبرى في إعجاز القرآن ، وهكذا ندرك من قرب أن البحث البلاغي قد اتجه اتجاهين مختلفين ، وهما باصطلاح المحدثين: (المدرسة الأدبية ) و (المدرسة الكلامية ) في البحث البلاغي ، وتتميز المدرسة الأدبية بالإكثار المسرف من الشواهد الأدبية شعراً ونثراً ، مع الإقلال من التعاريف و القواعد ، وتعنى الكلامية بإعجاز القرآن الذي هو ملتقى ما بين الأدب و العقائد ، والفلسفة الإلهية . على حين تعنى المدرسة الأدبية بالتكوين الأدبي ، والتمرين على صناعة الجيّد من الكلام ، و تربية الذوق الناقد ،وعلى أساس هذا التقسيم البارز بين التيارين الواضحين ، في البحث البلاغي يكون النظر في تاريخ التأليف في البلاغة ، وتاريخ الرجال المشهورين : أما تأريخ الرجال الذي نتطلع إليه ، وإنه ليس مما ينال بالنظرة العابرة. ولن يكون إلاّ بتحليل دقيق ولرجال البلاغة سمات عامة منها : أنهم في كثرتهم ذوو صلة بالفلسفة وبيئتها ، ويتفق ذلك في جميع أدوار حياة البلاغة : نشأة ، وتطوراً، وجموداً ، سواء أكانت الفلسفة العامة ، أم الفلسفة الكلامية الخاصة ، ومن ملامحهم أن كثرتهم من غير العرب ، وإذا كانت عجمة مع فلسفة فقد كمل البعد عن مجال الفن و روحه ، بقدر البعد عن حسّ العربيّة ، وتَمثُّل روحها ، وإدراك مجال الجمال فيها، ومن خصائصهم عدم قيام رابطة مكانية بين نفر منهم، فتكون لهم مدارس منسوبة إلى مكانها كالمدرستين البصرية و الكوفية في النحو، وربما يرجع ذلك إلى أنهم لم يبلغوا من الكثرة حداً، ولم يبلغوا من العصبية المذهبية في البلاغة الحد الذي يجعل لمدارسهم معالم وخصائص ، كما أننا لا نجد الكتب في طبقاتهم كالذي نجده من كتب الطبقات للجماعات المختلفة من اللغويين والنحويين ، ومن الملاحظ في حياتهم أنه لا يتميز تقسيمهم على المدرستين البلاغيتين المعروفتين ، فقد يكون فيهم الكلاميّ الصريح ، وقد يكون فيهم الأديب الواضح ، أو المشارك في هذه وتلك أي ( في المدرسة الأدبيّة ،و المدرسة الكلاميّة ).                                                                          
  فمن رجال المدرسة الأدبية : ثلّة من الأولين في القرن الثاني و الثالث الهجريين: (عبد الحميد الكاتب ،ابن المقفع ، الجاحظ ،المبرد ) ، وهناك رجال أصحاب مؤلفات متخصصة نعدّ منهم (عبدالله بن معتز ، قدامة بن جعفر ،العسكري، الرمانّي ، الباقلاني ، ابن رشيق ، القيراوني ، ابن سينا الخفاجي، الجرجاني أبو بكر عبدالقاهر، وابن الأثير ضياء الدين ، والمرزباني في نقده ، وابن عبد ربه في عقده ).                                       
ومن رجال المدرسة الكلاميّة : (السكاكي ) أبو يعقوب يوسف في تقييد هذه البلاغة وتقسيمها على أقسامها ، وهو الذي كان أصل ما عرفت القرون بعده من صور للبلاغة حتى عصرنا هذا ، وكما لم يمنع التمثيل من تقدير رجال من ذوي النزعة الأدبية البلاغية ، فكذلك الأمر في الخطة الكلاميّة ، إذ نعد فيها من لم يتفردوا بوصف البلاغة (كالزمخشري في تفسيره الكشاف ) إذ فسّرَ ،فطبق اصطلاحات ،وقدّم تخريجات كانت خدمة مباشرة للنزعة الفلسفية البلاغيّة .                                                   
وأما المؤلفات ، فهو ليس إلاّ إشارات مركزة للكتب التي قدمت الإخراج البلاغي ، فلوّنته ،وأثرت فيه ،فمن كتب المدرسة الأدبية التي قدّمتها ثلة الأولين (البديع ،نقد الشعر لقدامة ، والصناعتين الكتابة والشعر لأبي هلال ، والنكت في إعجاز القرآن للرماني ، وإعجاز الباقلاني، والعمدة لابن رشيق ). أما كتب المدرسة الكلامية فمنها (نهاية الإيجاز ودراية الإعجاز) للرازي، و( مفتاح العلوم) للسكاكي.وأثر الفلسفة جلّي في البلاغة التي عاشت في جميع  أدوارها  في كنف رجال الفلسفة ، وتحت رعايتهم ، ففي دور نشأتها ، وتكوّنها نرى من رجالها (سهل بن هارون ) و (الجاحظ) ، و(قدامة بن جعفر).                                                                                   
خطونا إلى دور من أدوار تطورها، وظهور التأليف المفرد المستقل فيها،فنرى أنّ (عبدالقاهر الجرجاني ) كان على مذهب الأشعري ،ثمّ يبدأ دور التلخيص والشرح ، فالحواشي والتقارير فنرى من رجاله (عبدالرحمن بن أحمد ) كان إماماً في المعقولات ، له في علم الكلام كتاب (المواقف ) وكذلك السيد الشريف الجرجاني ، والبسطامي ، ودعوى الفلسفة  كانت منذ القدم تمضي إلى القول بأن خطابة أرسطو وشعره هذين ، قد أوحيا بخواطر الشعراء ، ومعاني الكتّاب ، في عصر زهو الأدب العربي ، وروح الفلسفة ما زالت مسيطرة على درس البلاغة ، والتوسع في أبحاثها مازال يجري أكثر ما يجري على رسوم بحث الفلسفة ، ذلك أن هذا البحث قد اتجه اتجاهين مختلفين ، فكانت هناك طريقتنا لدراسة البلاغة لكل واحدة منها مزاياها وخواصها ، وهاتان الطريقتان هما : (طريقة المتكلمين وطريقة الأدباء ) ، فأما الطريقة الأولى  فتمتاز في الجدل والمناقشة ، والتحديد اللفظي ، والعناية بالتعريف الصحيح ، والقاعدة المقررة ، وهذه الطريقة جليّة في (نقد الشعر ) لقدامة بن جعفر ، حيث نراه يتكلم عن الهجاء بالغدر ، ويقول إن هذا الفعل إنما هو من أفعال الجهل والبهيمة . وأما الطريقة الثانية  وهي طريقة الأدباء في درس البلاغة ،فتمتاز بالإكثار المسرف من الشواهد الأدبية نثرها وشعرها ،و الإقلال من البحث في التعاريف و الأقسام ، ونرى هذا في كتابة (أبي الهلال العسكري)في الصناعتين ، يسوق في المقام الواحد عشرات الأمثلة والشواهد من القرآن والحديث ، وكلام العرب، ويعتمد في النقد الأدبي على الذوق. وللقصد من دراسة البلاغة إلى هذه الغاية الكلامية من أمر الإعجاز ، نرى الكثير من كتب البلاغة في مختلف الأدوار يحمل هذا في اسمه (كدلائل الإعجاز ) ، و ( نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز ) ، بل إن قضية الإعجاز قد أثرت تأثيراً كبيراً في توجيه التأليف في البلاغة ، كما أن لها الفضل الأكبر في مؤلفات بلاغية بعينها ، وقد استفادت البلاغة من التأثيرات المختلفة للفلسفة،وقد ظهر أثره الحقيقي بما تلاه من أدوار حياة البلاغة ، فقد أمدتها من أبحاث ، واصطلاحات ، وعناية رجال، ومن ناحية أخرى نرى أن هذه النشأة قد تركت في البلاغة استعداداً  للاتصال بالفلسفة ، فيما بعد ذلك من أيامها،ففي طور التكوين و الدراسة ، رأينا المدرستين اللتين تولتا بحث البلاغة المدرسة الكلامية ، والمدرسة الأدبية ، وميزة كل منهما ، وقد كان من أثر ذلك شهادة التاريخ بوجود هاتين المدرستين أننا جعلنا نفرّق بين طريقتين للدرس البلاغي ، طريقة عملية هي الصورة الشائعة المتداولة لدرس البلاغة ، وطريقة فنيّة تنمي خواص الدراسة الأدبية . إن البلاغة تتمنى أن لو لم يكن لها بالفلسفة تلك العلاقات السابقة ، ولم يكن لها إلا تلك العلاقة العامة ، وهي عناية الفلسفة والبلاغة بالجمال ، فتعمل البلاغة العمل الصادق في درس الجمال القولي.                                                     
ومن القضايا التاريخيّة لإعمال الفكر فيها ، أن جمهرة الذين تولوا البحث في البلاغة على اختلاف العصور فلاسفة، أو متفلسفين ، وكان لذلك أثره الظاهر في كتبها ، وقضايا مؤرخي الآداب العصريين في تاريخ البلاغة قاصرة تارةً، وغير صحيحة ، فنجد أن علم المنطق ،وعلم الكلام هما أهم العوامل في نشأة البلاغة ، وقد أشار القدماء إلى ذلك ، و للقدماء في درس البلاغة طريقتان كلاميّة وأدبيّة ، ولكل طريقة مزاياها ، وكتبها ، ورجالها ، صلة الفلسفة – ولا سيما المنطق – قد سببت ضيق دائرة بحثها ، وحرمتها من أبحاث ضرورية ، وصلة البلاغة بالفلسفة جعلت الغاية منها كلاميّة .       
أما القضايا الاصطلاحية (تجديدية ) ،فهي أن الدرس التاريخي يهدينا إلى تجديد نطمئن إليه ، ونثق أن لاتبديد فيه ،وفي دراسة البلاغة بكتبها الأخيرة تقصير أدبي وديني، كما أنه يجب إبعاد الطريقة الكلامية – أو العلمية – في درس البلاغة ، وإحياء الطريقة الأدبية .                                                                                       
أما عن صلة البلاغة بعلم النفس، فقد اتصلت البلاغة قديماً بعلم النفس اتصالاً وثيقاً ، ولو لم يلمح القدماء هذه الصلة ، أو يرتبوا عليها أثرها ، فإذا ما نظرنا النظرة الأولى إلى البلاغة ، وجدناها ليست إلا تتبعاً لمواقع رضا النفس ، وعناية بالتأثير فيها ، ومن هنا تتصل بعلم النفس ، وتحتاج في دراستها إليه ، لكن ليس على هذا البيان الساذج وحده يقوم اتصال البلاغة بعلم النفس بل يتضح ذلك الاتصال بالنظر الدقيق وسواء في ذلك صنيع القدماء المتفلسفين في البلاغة ، وصنيع المتأدبين المتفننين فيها ، فالقدماء قسّموا البلاغة إلى تلك الفنون الثلاثة : المعاني ، والبيان ، والبديع ، وفرقوا بين الذكي والغبي ، والمعاند،و هم يتكلمون عن الأمزجة الإنسانية في الفضائل البشرية المختلفة ، و أثرها في صوغ العبارات ، وهم الذين يتحدّثون عن التشويق وطلب الإصغاء ، وهم الذين شرحوا تنادي المعاني ،و أنواع الترابط فيما بينها ، وهم الذين نسمعهم يتحدّثون عن التخييل ،  ولعبه بالنفس ، وعن التخيل . لكن البلاغة لا تقف عند هذه الحدود الضيقة القديمة ، كما لا يقف علم النفس حيث وقف به القدماء في فلسفتهم ، والفن القولي تصله  بالفلسفة وشائج قوية ، وقرابة متينة ، إذ الفن والفلسفة يخدمان معاّ فكرة الجمال والجميل . والفلسفة تعد الجمال شطراً من درسها الإنساني ، وتعدّ الجمال  غاية من غايات الحياة الكاملة ، كذلك كان الفن والفلسفة عاملين قويين في إنهاض الأمم ، وإثارة العناصر الحيّة الطامحة فيها ، والبلاغة من بين العلوم الأدبية ، هي روح الأدب ، والأدب مادتها ، ومن هنا كانت البلاغة أحق ما يتأثر بالتغيير في مناهج دراسة الأدب ، وتظهر فيه نواحي التجدد في الغاية ، والغرض من تلك الدراسة الأدبية ، فلا بدّ من توثيق الصلة بين ذلك الفن القولي، والخبرة بالنفس ، ويدعم الأساس النفسي للفن ، بأن تقدَّم بين يدي الدرس البلاغي مقدمة نفسية ، تدرس فيها القوى الإنسانية بعامة وما له من أثر فنّي، فنعرف عن الوجدان وعلاقته بمظاهر الشعور الأخرى من ناحية عمله الفنّي ، وبهذا الصنيع النفسي من الدرس ، والمشاهدة اليقظة ، والانتباه المستنبط نكسب مزايا كثيرة ، وكلما اشتد وَْصلُنا للأدب بالبيئة النفسية ، والجو الإنساني الحقيقي ، خلصنا من كثير من الآفات التي نشكو اعتداءها على الأدب ، ونستطيع إذا أيدتنا المعرفة النفسية أن ننظر في الاعتبارات البلاغية نظراً صحيحاً ، لنقبل منها ما نقبل على أساس واضح ، ونرفض منها ما نرفض عن فكرة صحيحة ، فَنُخَلْصْ دراسة البلاغة من تلك التعليلات الركيكة المزيفة ، وكم انطوت كتب البلاغة على سخيف النكات التي لا تتزاحم ، والتي هي ضرب من فكاهة الفقهاء ، ودعابة النفوس الراكدة ، وليست في أصلها إلاّ فروضاً ذهنية، واحتمالات عقلية ، و أبعد من ذلك و أعمق ، أن تقديرنا صلة البلاغة بعلم النفس سيهدينا في بحث مسألة قديمة – جليلة الخطر- كانت منذ أول الدهر ، محددة غاية البحث البلاغي ، و موجهة دراسته ، تلك هي مسألة (إعجاز القرآن ) التي أثرت في البحث البلاغي ، وحياة البلاغة العربية ، كما أن الآراء في الإعجاز وتعليله كادت تستوفي نواحي القسمة العقلية ، وتدير كل ترديد واحتمال ، فإذا كان وصل البلاغة بعلم النفس ، وإقامتها على ذلك الأساس الذي يمضي العلم قدماً  في الكشف عنه، والتجلية له ، سيهدينا إلى قول محدث ، أو رأي جديد في فهم الإعجاز القرآني ، فتلك فضيلة لهذا الرأي في حل قضية الإعجاز الكبرى ، وفكرة الإعجاز النفسي للقرآن الكريم لا تقوم إلاّ على إدراك ما استخدمه من ظواهر نفسية ، ونواميس  روحية أدار عليها بيانه مستدلاّ وهادياً، ومقنعاً و مجادلاً ، و مثيراً و مهدداّ ، فأصبح ما يملى عليه هذا التفسير هو القواعد النفسية ، وبعض بيان الإعجاز النفسي في القرآن ، هذا التكرار الذي قال فيه القدماء و المحدثون ، وقد عرض الجاحظ لهذه المسألة في كتاب (الحيوان ) ، والقاضي الباقلاني في كتابه (إعجاز القرآن ) ، ثم السكاكي في كتابه (المفتاح ) ، وكل منهم كانت له آراؤه في التكرار، أشعر أنها لا تزال تفسح مكاناً لمحاولة تعليل يقوم على اعتبار نفسي إنساني عالمي ، تؤيده شواهد من أحوال النفس البشرية واتجاهاتها ، من خلال تقديم أمثلة على التكرار ، ولعلّه يصح أن يكون من وجه ذلك ما يسوقه النفسيون من أن التكرار  من أقوى طرق الإقناع ، وخير وسائط تركيز الرأي ، والعقيدة في النفس البشرية ، إلى آخر ما يسوق علماء النفس على ذلك من شواهد ،ومثل عملية ، تغني عن اختراع الوجوه في تعليل التكرار القرآني، وجعله مثار الجدل والاختلاف .                                                   
أما التفسير النفسي للقرآن ، فنحن أحوج إليه ، لأن هذا الفن القرآني ، وهذا الموضوع الاعتقادي جانبان من جوانب الحياة الوجدانية ، فقد تكون اللمحة النفسية في المعنى القرآني أحسَم لخلاف عميق، كثير الشعب بين المفسرين ، وشواهد ذلك كثيرة ، فمن ذلك  ما في تفسير قوله تعالى :( نزل به الروح الأمين . على قلبك لتكون من المنذرين . بلسان عربي مبين ) . فقد ثار حول هذه الآيات خلاف من الأصول البعيدة ، والأسس الغائرة من البناء القرآني ، فهذا فريق يحتّج بها على نزول القرآن بالمعنى لا باللفظ ، و أن اللفظ من عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذ لا ينزل على القلب إلاّ المعاني ، وهذه مزلقة إلى إنكار أن يكون لفظ القرآن معجزاً.                                      
ومنكر هذا النزول المعنوي يضطر إلى تناول النزول  على القلب ليبين أن معدن العقل هو القلب أو الدماغ ، و هو ما يعرض له ( الفخر الرازي ) في تفسيره ، ويورد في ذلك آراء القدماء و المحدثين ، والاستدلال لكل رأي ، وهي مسائل شائكة مظلمة ، لم يقل البحث العلمي كلمته الأخيرة فيها ،حتى يكون الترجيح لجانب من ذلك، مأموناً مستقراً، لكنّ ( الفخر الرازي ) مضطر إلى أن يرجح ، فيؤثر أنه القلب ليبين كيف يكون النزول على القلب ، مع أن النزول باللفظ لا بالمعنى فقط . وبذلك المنهج النفسي في فهم حال المتكلم بلغته ، وحال المتكلم بغيرها، كشف الزمخشري ظلمة الموقف ، و هوّن الأمر حتى عند من لا يرى أنه حل المسألة حلاً نهائيا ، وبهذا جعل الاحتجاج بالآية على النزول بالمعنى دون اللفظ يبدو واهنا . إن الصلة وثيقة بين الأدب والخبرة النفسية ، يمتّد حميد أثرها إلى تلك القضية الكبرى في الإعجاز ، وهذا العمل الكبير الخطير في تفسير القرآن بعدما بدت قوة أثرها في التربية الفنية والحياة الأدبية ، و أنتقل للحديث عن البلاغة والبيئة المصرية ،فدراسة مصر وبخاصة من الناحية الأدبية ، دراسة يجب أن نتوافر عليها ، ونمنحها أكبر عنايتنا لأسباب منها : أن الاستقرار التاريخي الاجتماعي يشهد أن نهضات الفنون على اختلافها تسبق جميع نهضات الأمم ، وموقع مصر في العالم القديم هيأ لها الاتصال بما حولها من حركات فنية وفلسفية ، وعلميّة ، والمتصلة بحضارات الدنيا ، المشاركة في تقدمها ، وإذا نظرنا إلى البلاغة في مصر أثناء القرون : الخامس والسادس وشطر من السابع ، وهو الوقت الذي نمت فيه المدرسة الفلسفية بالشرق ، و ازدهرت ،وظهرت فيها أمهات مؤلفاتها ، نرى أن مصر في العهد الذي كانت تخرّج فيه المدرسة الفلسفية أكبر آثارها ، وتدعم قواعدها ، قد درست البلاغة ، وترك رجالها المصريون فيها كتباً ، نستطيع بالرجوع إليها فَهْمَ روح المدرسة المصرية للبلاغة في هذا العهد ، ووصفها ، فيصل بنا البحث إلى تقرير نتائج تفيد أنّ مصر لم تكن تساير المدرسة الفلسفية في المشرق ولا تتبعها ، بل كانت تنفرد عنها  ، وتخالفها ، كما أن الدراسة المصرية غير المندمجة في المشرق ، كانت أدبية الاتجاه ، عربيّة النزعة ، مخالفة في ذلك أكثر ما كان في المشرق من نزعة كلاميّة ، وهناك شواهد بيّنة منها : وضوح الرغبة في إعداد الذوق الأدبي ، واتجاه الدرس البلاغي إلى خدمة القرآن ، والكشف عن وجوه مخاطباته ببيان حقيقته ومجازه ، واستعاراته ، وفنون بديعة ، وقد خلّف المصريون في هذه البلاغة الأدبية القرآنية آثاراً ، كما أن عنايتها بالبحث الذي كان أسبق ما ظهر من أبحاث البلاغة الذي بدأه (عبدالله بن المعتز ) ، كما عنيت مصر بالفنون البديعية النقديّة عناية واسعة المدى ، بعيدة الأثر ، وفي هذه الناحية من العناية بالبديع فرق واضح بين المدرستين الكلامية في المشرق ، والأدبية في مصر ، وبذلك كان من المتوقع أن تتصل المدرسة الفلسفية ورجالها بمصر ، وهو ما كان بعد القرن السابع ، و أن تظهر آثار مصر في تلك المدرسة ، من حيث المشاركة القوية ، الواضحة الجدوى على حياة تلك المدرسة ، ورجالها ، ومؤلفاتهم ، والتوجيه الخاص الجديد لتلك المدرسة توجيهاً انتهى إلى ظهور مدرسة مصريّة لها خصائص واضحة ، فمصر هي التي حفظت المدرسة الفلسفية المشرقية ، وقامت على إحياء كتبها وخدمتها ، فألف علماؤها الكثير من الشروح ، والحواشي ، والتقارير ، وقد ظهرت مدرسة مصريّة مستقلة في البلاغة ، وهذه المدرسة كانت تجنح إلى مجافاة الفلسفة ، وقد تكون هذه المجافاة ظاهرة في أصاب العلوم الدينية و الأدبية ، وقد تجلى أثر هذه الكراهية في البلاغة بأمرين : هدف دارسوا البلاغة إلى أبعاد الفلسفة عنها ، وطرحوا الوجوه الفلسفية في فهم التراكيب ، وعصبيتهم للعرب، و تطولّهم على اليونان ، ومن آثار هذه المدرسة المصرية البلاغية كتاب (عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح ) للبهاء السبكي ، في هذا الكتاب صورة كاملة  للمدرسة المصريّة ، وفيه البيان الأوفى لخصائص تلك المدرسة ، وهو خلاصة صافية ، ومزيج لبق من الأبحاث الفلسفية الكلامية ، و الأبحاث الأدبية الذوقيّة ، والروح الفنيّة الصحيحة ، مع ظهور شخصية صاحبه ، وتجلّيها في البحث والتحقيق ، كما امتاز هذا الكتاب ببسطة القلم ،وطول النفس ، كما أنه سرد كتباً منها النادر الآن ، ومنها المفقود الذي لم نره ، فمن ذلك : بديع المعتز ، وسرّ الفصاحة للخفاجي ، وإعجاز القرآن للرماني ، وقوانين البلاغة لعبد اللطيف البغدادي .                        

















الخاتمة:

وبعد... فهذه وقفة موجزة مع فصل من فصول كتاب ( مناهج تجديد في النحو والبلاغة والتفسير و الأدب ) ، هو فصل (البلاغة ) والتي تعدّ من أجمل و أهم الفنون القوليّة ، فقد وضّحتُ مفهومها مقارنة بالفصاحة ثم توقفت عند نشأتها من خلال الأدوار و المراحل التي مرت بها ، بدءاً من مرحلة البداوة ، وانتهاء بالدور الدراسي أو ما يسمى بالدور العلمي ، وعرضت للنواحي الثلاث التي يقوم عليها البحث البلاغي ، وهي مفهوم البحث ، والرجال والمؤلفات باختصار ، ثم توقفت عند الكتاب الذي أثار جدلاً حوله ، وكان للقدماء و المحدثين رأي فيه ،وهو كتاب (مجاز القرآن ) ، و وضحت أثر الفلسفة وعلم النفس على البلاغة ، فقد اتضحت رؤية البلاغة من خلال بيان أثر و دور الفلسفة وعلم النفس ، فقد نشأت وتطورت البلاغة في أحضانها، وقد ظهرت المدرستان الكلاميّة والأدبيّة ، وكانت لهما خصائص ، ورجال ، و مؤلفات ، وقد برزت قضية إعجاز القرآن ، وظهر ما يسمى بالتفسير النفسي للقرآن ، و أخيراً أوجزت الحديث عن البيئة المصرية و أثرها في البلاغة ، فكانت هناك مدرسة مصريّة في البلاغة لها طابعها الخاص ، ومميزاتها المنفردة.                                                                






التعليق:


جهود مشكورة للمؤلف على طرحه موضوعاً هاماً شائقاً ، وهو البلاغة ، فقد تناوله بإسهاب ، موضحاً أن البلاغة لم تنشأ في القرن الثاني الهجري ،بل كانت هناك إرصادات و مؤشرات هيأت لها التربة الخصبة لتنمو ، وهي مرحلة البداوة ، ثم العصر الإسلامي ، و الأموي ، و إن كانت في تلك المراحل مازالت غضّة ، كما كشف الضوء على أثر الفلسفة و علم النفس في نشوء البلاغة ، وهذه حقيقة ربما جهلها الكثيرون ، أو كانت معارفهم عنها ضحلة ، ثم تناوله للمدرستين اللتين ظهرتا وهما: المدرسة الكلاميّة و المدرسة الأدبيّة ، وخصائص كل منهما ، والرجال الذين ينتسبون إليهما ، مع المؤلفات يعدّ خطوة هامة نحو البحث في تلك المؤلفات ، و إعداد رسائل علميّة حولها ، ثمّ تحدّث عن دور مصر في ازدهار البلاغة مشيراً إلى المدرسة المصريّة المتميزة بخصائص ، والتي تختلف إلى حدٍ ما  عن المدرستين الكلاميّة والأدبيّة . ثمّ إن طريقة عرض المؤلف لموضوع البلاغة كانت مناسبة ،حيث اتّبع التسلسل و الترتيب المنطقي في عرضها ، إضافة إلى الشواهد التي ذكرها دعّمت الفكرة ، ولم يبخل بعرض آرائه أحياناً بشكل موضوعي . وهو في ذلك يمتلك ثروة لغوية استطاع أن يوظفها بشكلها الصحيح ، وفي مكانها المناسب ، وخلاصة القول أنني استفدت كثيراً من هذا الموضوع.                                                                          

تلخيص كتاب مناهج البحث الأدبي - لمحمود ياقوت


المـــقدمـــة
       الحمد لله الذي علم بالقلم , علم الإنسان ما لم يعلم من الفصاحة و البيان, و أصلي و أسلم على أفصح من نطق بالضاد , و بعد :
       لا أحد يشك في أن الدكتور شوقي ضيف  يعد علامة من علامات الثقافة العربية، لا في مصر وحدها بل في العالم العربي كله ، حيث  ألف عددا من الكتب في مجالات الأدب العربي، وناقش قضاياها بشكل موضوعي.
    وقمتُ بتلخيص كتابه(البحث الأدبي طبيعته،مناهجه،أصُوله،مصَادره)،وعرض القضايا التي طرحها المؤلف في كتابه،ولقد احتوى الكتاب على مقدمة وفصول وهي كالنحو الآتي:
1-  المقدمة
2-  الفصل الأول : طبيعة البحث الأدبي
3-  الفصل الثاني: المناهج
4-  الفصل الثالث: الأصول
5-  الفصل الرابع: المصادر
6-  الخاتمة
      ولقد حاولت المرور بإيجاز على هذه الفصول ,والوقوف على ما لفت انتباهي , وأسأل الله أن أكون قد وفقت في تلخيص هذا الكتاب.

والله الموفق
الفصل الأول
طبيعة البحث الأدبـي
        مادة البحث الأدبي هي الأدب بفرعيه من الشعر والنثر ، ويقصد به إثارة الانفعالات في قلوب القّراء والسامعين، ولذلك كان يعتمد على الخيال في التركيب الكلي لآثاره، كما يعتمد عليه في عناصره الجزئية ، ووحداته المفردة، لأن الأديب لا يتحدث حديث الشخص العادي المجرّد كلامه من التصوير، بل يتحدث حديثاً  تصويرياً، ولا يتضح ذلك في المواقف وحدها، بل يتضح أيضاً في المادة اللفظية ، وما يجري فيها من تصوير، والأديب يؤدي معاني، وخواطر، وخوالج، و أفكاراً ، ومن أجل ذلك كان الأدب لا يرتبط بحقيقة ولا بصدق ،ولا كذب، وينبغي ألاّ نحكّم الأخلاق والصدق والكذب في الأدب، لأنه يقصد به إلى التأثير في العواطف والمشاعر ، ولا بدَّ أن يمتزج الأديب بمجتمعه حتى يكون جزءاً لا يتجزأ منه ، وحتى يعبّر عن كل خواطره الجماعية، وكل ما يموج به من أفكار وأحاسيس ، ومن هنا كان الأدب ذاتياً غيرياً في الوقت نفسه، فهو ذاتي في صدوره عن صاحبه ، وأحاسيسه، ومشاعره، وهو غيريّ في تصويره لمشاعر الناس و أحاسيسهم ،وهذا الجانب يجعل شيئا من الغموض يسري في معانيه ، فهي معان لا تتكشف تماماً لأنها معانٍ عاطفية ، والمعاني العاطفية يلفها الغموض في طبيعتها، وهذا الإيعاز في كلمات الأدب ، وما يرافقه من سيولة المعاني و اتساعها هو الذي يجعل ترجمته ونقله من لغة إلى لغة أشقّ الأشياء ، وأكثرها عسراً وصعوبة ، ولعل هذا الاتساع في معاني الكلمات الأدبية هو الذي جعل الأدباء من قديم يحملّونها معاني كثيرة ، وتوضّح ذلك المعاجم اللغوية ، حيث نجد للكلمة الواحدة معاني متعددة ، وبجانب هذا المعنى للكلمات الأدبية يوجد معنى ثانٍ هو المعنى البياني، أو المجازي ، كما أن للكلمات الأدبية معنى ثالثاً صوتياً ، وهو معنى ألجأ الأدباء إليه من قديم ، وذلك لأنهم أرادوا أن يتلافوا ما في كلماتهم من نقص في الأداء العاطفي ، فاحتالوا على إكماله بالجرس الموسيقي ، ومن يمعن النظر في المعاني اللغوية للكلمات في الأدب يجدها تتحور في ثنايا تركيبها في الجمل والعبارات ، وكأن لها جانبين:
جانباً لغوياً فردياً ، وجانباً لغوياً جمعياً.
     لا بدّ للباحث من ثقافة واسعة كي يهتدي إلى بحث أدبي طريف، وعليه أن يهتدي إلى البحث من خلال قراءاته لكتب الباحثين ، لأن لهذه الطريقة فوائد كثيرة ، لأن الباحث يتناول موضوعاً اكتشفه بنفسه أثناء قراءته، وهي قراءة تُنشئ في عقله كثيراً من الأفكار و الخواطر، وتُنشئ في نفسه أيضاً  إحساساً عميقاً أن هناك سباقاً حاداً عنيفاً سينشب بينه وبين من اتصلوا بهذه البحوث، وبذلك يهيئ الباحث الناشئ لنفسه التخلص من الخضوع لأفكار الباحثين السابقين ،كما ينبغي على الباحث ألاّ يهجم على البحث في الأدب قبل أن يتسلح له بقراءات كثيرة فيه ،وفي مباحثه ، حتى يجد نفسه ، وحتى تتكون شخصيته تكوناً أولياً ، وحتى تكون خطواته سديدة لابدَّ أن يحدد لنفسه العصر الذي يدرسه ، والمكان، والإقليم ،والشخوص، والجوانب المختلفة المتصلة بالبحث، وعلى الباحث أن ينقب عن جانب من جوانب النشاط الأدبي لم يعنَ به الدارسون من قبل، ويحاول أن يتبينه في أضواء كاشفة ، بحيث ينكشف له من جميع جهاته انكشافاً تاماً. والمهم دائماً تضييق مجال البحث ، حتى يستطيع الباحث أن يلمّ بأطرافه ، وحتى تصبح له معرفة دقيقة بتفاصيله ، وحتى يمكن أن يتعمق في أغواره، ويحيط بمادته ومصادره، ومن الخطأ الاتساع بالموضوع، ولابدّ للدارس من ثقافة واسعة بعلوم العربية من النحو والصرف والبلاغة والبيان، والأخبار، والتاريخ، ولا بدّ له من الوقوف على الفكر الفلسفي ، وكذلك المعرفة بتاريخ الأدب العربي بحيث يستقر في وعيه تيار ماضينا الأدبي من مصادر انحداره الأول إلى الزمن الذي يعمل فيه ، وعليه أن يوضح التواصل بين الأبناء والآباء في الأمة.
     كذلك ينبغي للباحث أن يحدد موقفه وموقف بحثه من المواد التي يجمعها، فليس كل ما يجمعه جديراً بأن يسرد في البحث، ونفس المواد المتصلة بالبحث بوضوح ينبغي أن تتسّق فيما بينها ، فالنصوص ينبغي أن تكون مترابطة ترابط أجزاء القضية المنطقية، فليس هناك حشو، ولا استطراد، ولا عبارة تلقى إلقاء، أو فقرة تسرد سرداً من دون أن يكون لها ارتباط شديد بالبحث، وينبغي أن يستقر في أذهان الباحثين أنهم يتعاملون في كلامهم مع علاقات منطقية محكمة،  فكل فقرة تتصل بما قبلها وبما بعدها. فكثير من البحوث الأدبية ينقصه التسلسل المنطقي المحكم، كما ينبغي على الباحث ألاّ يعمد إلى الإطالة، لأن ذلك يؤدي به إلى الاستطرادات المعيبة .
      كما ينبغي أن يترسم الترتيب الزمني ، فهو أساس أول في تنسيق مادة البحث، وقد يتخذ المكان قاعدة بدوره للترتيب، والارتباط بمكان معين يعين على تنسيق مادة البحث الأدبي، وأخطر ما يعرّض بحثاً أدبياً للانهيار أن يجمع صاحبه كل ما يتصل بعنوانه من مادة علميّة بدون عناية – باختيار أو تصنيف – ولذلك كان من الضروري أن يقسّم البحث الأدبي إلى أبواب وفصول، حتى تتميز موضوعاته ، ويصبح كل موضوع دائرة أو منطقة خاصة يدرس فيها درساً دقيقاً ، والفصل و أجزاؤه ليس أكواماً من المعارف، إنما هو قضايا تساق لها الأدلة والحجج المنطقية، ولذلك فإن النسق المنطقي أساس في أي بحث أدبي، وكما هو يطلب في الفصل و أجزائه، وفقره وعباراته، يطلب في نسقه العام، فما لم يكن قد ضبطت أبوابه وفصوله، فإن خطراً عظيماً يهدد كيانه، ومن الواجب أن تُتَمم المقدمات والتمهيدات، والأبواب والفصول بعضها بعضاً، بحيث يترتب بعضها على بعض ترتيباً يجعلها كّلاً واحداً، أو جسداً واحداً تتولد أعضاؤه تولّدا طبيعياً، وخير ما يصور البحوث الأدبية من هذه الناحية قَرْنها بعمل أدبي معروف هو : المسرحية .
       إن البحوث الأدبية تقوم على عملين أساسيين ،هما : استقراء الحقائق الجزئية، واستنباط الحقائق الكلية، والقضايا العامة، فلا بدّ من الاختيار، والانتخاب، والانتقاء، ولا بدّ من الاستقصاء الدقيق، والإحاطة التامة بكل الحقائق المتصلة بالبحث الأدبي ونصوصه الجزئية حتى يمكن الوصول إلى الحقائق والصفات الكليّة، والبحوث الأدبية تبدأ بالجزئيات، وتنتقل منها إلى الكلّيات، تبدأ بدراسة الخاص وتنتقل منه إلى دراسة العام.
      والاستقراء عماد البحث الأدبي ، وقوامه ، ولنتصور شخصاً يدرس العصر الجاهلي، ولم يقرأ كل نصوصه، فإن دراسته لا بدّ أن تكون ناقصة لأنها نقصت شطراً من الاستقراء، وهو لا بدّ أن يكون شاملاً حتى تكون الأحكام سليمة، ولا يقع الباحث في تعميمات و أحكام خاطئة، كذلك ينبغي الاستقراء الكامل لنصوص الشاعر، وبخاصة حين يتعمّق البحث في الحديث عن نفسيته أو عقيدته، فمن أكبر الخطأ عن دارس لأبي العلاء المعري، وعقيدته مثلاً ألاّ يستقرئ أشعاره جميعاً ، وأن يكتفي بأبيات.
       والاستقراء دائماً يرافقه الاستنباط ،فالباحث الأدبي يستقرئ الجزيئات، ويحصيها، ثمَّ يفحصها ليدون ما يستنبطه من خصائصها وصفاتها الكلية مستعيناً بذلك ببيان الأسباب والدوافع والغايات والنوازع، فهو لا يسوّد صفحات يملؤها بنصوص، وإنما يسجّل ملاحظات، واستنباطات متعاقبة . فالبحث الأدبي استقراء واستنباط للنصوص، وإحاطة بها من جميع أطرافها، وهو استنباط واشتقاق من النصوص للخصائص والصفات ، مع بيان العلل الباطنة ، ولا بدّ مع كل استنباط من نصوص يستخرج منها، فإذا لم يقترن الاستنباط بنصوص فإنه لا يكون استنباطاً بل يكون فرضاً، ويؤذي البحوث والدراسات قلة الاستنباطات إذ يحس القارئ أنه أمام باحث لا يتعمق ما يبحثه، والمثال على ذلك زهديات ومواعظ أبي العتاهية ، الذي نميل إليه أنه كان صحيح الإسلام والعقيدة، وأنه كان يستمدّ زهده من مصادر إسلامية، غير منتبه إلى شك معاصريه في زهده ، واتهامهم له بأنه إنما كان يستمده من المانوية .
      ومن الصفات الهامة التي ينبغي أن تتوفر في البحث الأدبي: صف (دقة التفسير) وهذه الصفة ترجع إلى ملكة الباحث، ومدى قدرته على تبين العلل الكلية للظواهر الأدبية، وقد تكون الظاهرة غامضة بحيث يختلف الباحثون فيها اختلافات كثيرة في تفسيرها، وتبّني أسبابها، ولعل تفسير الظواهر الشعرية لم يضطرب في عصر كما اضطرب في العصر الأموي، فقد ظن الباحثون أن الشعراء في هذا العصر استمسكوا بالعناصر التقليدية الموروثة عن الشعر الجاهلي، ولم يجددوا في أشعارهم، ولم يتطوروا إلاّ ما كان من ظهور الشعر السياسي، وظهور الغزل العذري، ونموّه الواسع في نجد، وبوادي الحجاز،لكننا نرى صور التطور والتجديد.
     كما نحتاج إلى دقة التفسير للظواهر الأدبية في العصور المختلفة ،كذلك نحتاج إليها في تفسير المذاهب  الفنية، فمذهب التصنع، أو التكلف الشديد الذي ساد في الشعر العربي منذ القرن الرابع للهجرة، يحتاج إلى ما يسنده من تكلف وتصنع مماثل في الحياة العربية، والحضارة الإسلامية .
     كذلك البحوث في تاريخ البلاغة ،والنحو، ومدارسه التي تكوّنت فيه على مرّ الزمن تحتاج إلى دقة في التفسير ،وقد تلزم أيضا في بحوث الشعراء ، وخاصة إذا صوروا في أشعارهم عن عقائد شيعية ، أو أفكار فلسفية، أو اعتزالية، فلابد أن تُفهم هذه الأفكار والعقائد فهماً دقيقاً حتى لا يخبط الباحث خبط عشواء ،وعلى هذا النحو لابد أن يستند البحث الأدبي بتفسير يعمّه ،وتفسيرات تتداخل في بنائه العام ،بحيث لا يجري الكلام هكذا ،وإنما توضع له العلل والأسباب التي تجعل منه عملاً مترابطاً محكماً شُدّت أجزاؤه بعضها إلى بعض شدًّا وثيقاً.
      ولا بدّ للباحث الأدبي من قدرة على التذوق للنصوص الأدبية ،وهي مَلَكَة من طول الإكباب على الشعر ،وآثار الأدباء في القديم والحديث، بحيث تصبح استجابة صاحبها لما يقرأ استجابة صادقة، وهي أول خطوة في البحث الأدبي، فلا بدّ أن يحسّ الباحث بالعمل الأدبي، ويشعر أنه أثّرَ فيه بروعته ،ولا يكتفي البحث الأدبي بوصف أحاسيس الباحث إزاء الآثار الأدبية، بل يحاول أن يعلل هذه الأحاسيس ، وأن ينتقل من التذوق إلى العلل والأسباب انتقالاً يحلل في تضاعيفه الأثر الأدبي تحليلاً يوضح عناصر جماله، وتأثيره في النفوس، وينبغي تحليل شخصيته في كتابات التاريخ الأدبي، إذ هو ثمرة ظروف كثيرة متشابكة، وكما تحلّل المؤثرات التي كونت شخصيات الأدباء ينبغي أن تحلل المؤثرات التي تعاونت على تكوين غرض معين عند الشاعر أو الكاتب، والتي طبعت إنتاجه، وآثاره بطوابع معينة ، كذلك تحلل اتجاهاتهم الجديدة الفردية والجماعية . ومن المهم أن يلاحظ الباحث ما قد ألمّ بالأديب ، أو رافقه من أمراض، فإن ذلك قد يكون له أثر بعيد في تحليل بعض الاتجاهات عنده،أو بعض الظواهر وعلى نحو ما تتركه الأمراض من آثار في الأدباء، تظهر جميع خواصهم ،وتتميز كتاباتهم تمييزاً دقيقاً،ويُصوَّر ذلك من بعض الوجوه تحليل خاصية الواقعية في كتابات الجاحظ، كما أن المذاهب الفنية في الأدب تقوم مقام النظريات في العلوم، فالمذهب الأدبي يجمع طائفة من الظواهر والخصائص عن طريق استقراء النصوص، واستخلاصها في دقة، ويفيد الباحث من المذهب الفنّي الذي ينتمي إليه الشاعر فوائد جلّى.
      كما أن أي بحث أدبي ينبغي أن تتوفر له دقة العرض، فيكون له بدء واضح ، و وسط واضح، ونهاية واضحة، لذلك كان من الواجب ألاّ يبادر أي باحث إلى الكتابة في البحوث الأدبية قبل أن يستوعب مادتها، ويتمثلها تمثّلاً دقيقاً، حتى لا تتحول إلى حشد معلومات يرصّ بعضها بجانب بعض، ولذلك ينبغي على الباحث ألا يتعجل في كتابة موضوع قبل أن يحيط إحاطة تامة بمادته، فأساس العرض لأي بحث أدبي إنما هو التمثّل الذي يحيله عملاً متكاملاً ، كما يحتاج العرض إلى شيء من الدقة، فالباحثون يعنون بأوضاع بحوثهم في فصولها ،وما يختارون لها من عناوين، وما يسوقون من أفكار، وكثيراً ما يعمد بعض الباحثين إلى أوضاع غير مألوفة حتى يحدث ببحثه رجّات عنيفة في نفوس القّراء، وبجانب العرض الدقيق، وأوضاعه، ينبغي أن يكون الأداء سديداً، بحيث تتوفر للباحث معرفة دقيقة بالألفاظ التي يستخدمها، وينبغي أن يتحرّى في استخدام كلمات الأحكام الأدبية، بحيث لا يوردها بصيغ التعميم إلاّ حين يتأثر من اندراج جميع الجزيئات في الحكم الأدبي، وينبغي أن يفسح الباحث لصيغ الاحتمالات ،كما ينبغي أن يطرد عن صيغه وعباراته كلّ حشو.
     وينبغي أن يتجنب الباحث التكلّف في الأسلوب، فلا يستخدم السجع إلاّ ما قد يأتي عفواً ،ولا يستخدم الصور البيانية إلاّ إذا وجد لها مبرراً، و الأوْلى أن يتحاشاها حتى لا تجرّه إلى أخيله معقدة،ولا بدّ أن يتمرن طويلاً حتى يستقيم له أسلوب واضح فصيح، أسلوب وسط، أسلوب فيه تناسق واستواء.





الفصل الثاني
المناهج
     إن أول منهج للبحث العلمي، وطرق الاستدلال فيه، والاستنباط هو منهج أرسطو الذي سمّاه باسم المنطق، وقد اهتم العرب بمنطق أرسطو منذ ابن المقفع ، فترجموه، ثم شرحوه، ولخصوه في مصنفات كثيرة، وربما كان أهم بحث أدبي عند العرب يتضح فيه تأثير المنطق الأرسطي، وتأثر بمنهجه كتاب (البرهان في وجوه البيان)، وقد كان العرب يستضيئون بمنطق أرسطو في بحوثهم الأدبية، مع محاولات خصبة للعناية بالجزيئات والمفردات، واكتمال الاستقراء، وصحة الاستنباط، واتسعوا في الملاحظات سعة شديدة، وهي تقابل في البحوث الأدبية التجارب في البحوث العلمية عندهم، وقد ظلوا مع ذلك يحتكمون إلى المنطق الأرسطي مكثرين من القواعد والضوابط والأقيسة.
      لقد كان من آثار نهضة العلوم الطبيعية في القرن الماضي أن سيطرت مناهجها، وقوانينها على البحوث الفلسفية والأدبية سيطرة أدت إلى ظهور الفلسفة الوصفية عند ( أوجست كومت ) ،كما أدت إلى ظهور ما يمكن أن نسميه بالتاريخ الطبيعي عند طائفة من النقاد ومؤرخي الآداب.
     ولكن هذا التاريخ الطبيعي الجديد للأدب والأدباء لا يعني الباحث في قليل ولا كثير ما يتفرد به الأديب، إنما يعنيه ما يجتمع فيه مع طائفة من أدباء أمته، مما يمكن تسميته قاسماً مشتركاً، وبذلك كله ينفذ المؤرخ الطبيعي للأدباء إلى وضعهم وضعاً بصيراً في فصائلهم الأدبية، وأنماطهم الفنية، و واضح أن ( سانت بين )  شغله وضع الأدباء في فصائل وطبقات عن الجوانب المميزة لشخصياتهم ،وهي الجوانب التي تجعل لكل منهم كيانه المستقل، والتي تتيح لكل منهم أصالته وطوابعه، وملامحه الخاصة التي تفرده عن نظرائه في عصره وبيئته، وخلفه في هذا الاتجاه العلمي تلميذه (تين)، وتعمّق فيه أكثر منه، فإذا هو يحاول إسقاط الفردية إسقاطاً تاماً، وقد وضع (تين) ثلاثة قوانين :قانون الجنس، وقانون البيئة، والعصر والزمان، وقد تنبّه العرب من قديم إلى قوانين (تين) ومن الواجب الإفادة بقوانينه، في تأريخ الأدب العربي، ودراسة أدبائه، لكن على ألاّ يتخذ ذلك الصيغة الجبرية الحتمية التي صاغها فيها، وخاصة (قانون الجنس) .وثالث الثلاثة في هذا الاتجاه القائم على منهج العلوم الطبيعية وقوانينها الجبرية الحتميّة (برونتيير) ، والنظرية الأساسية عنده صحيحة، فالأنواع الأدبية تنشأ وتنمو وتتطور متدرجة من زمن إلى زمن ، فنظرية التطور مع صحتها ينبغي ألاّ نبالغ فيها على نحو ما بالغ (برونتييز)، والحق أن كل نوع أدبي يتطور،ولكن يتطور في أدوار متعاقبة داخلية.
     والأدب في حقيقته تعبير عن المجتمع، وكل ما يجري فيه من نظم وعقائد و أوضاع و أفكار، فلا يوجد أدب بدون مجتمع ينبثق عنه، فصورة (الألياذة ) لا تتغنى بعواطف فردية، وإنما تتغنى بعواطف الجماعة اليونانية لعصرها، وقد نشأ الشعر العربي متدرجاً من أناشيد وتراتيل دينية، نشأ من خلال حياة الجماعات العربية الأولى وطقوسها الدينية، وما اتصل بها من كهانة وسحر. وقد أدرك أرسطو و أفلاطون من قديم الطبيعة الاجتماعية للشعر، وما يُحدِث من تأثير في الجماهير، وأفرد أرسطو للشعر كتاباً درس فيه المأساة دراسة تفصيلية ، وقد بدأه بنظرية أستاذه أفلاطون القائلة بأن الشعر محاكاة للطبيعة، والشعر في رأي أرسطو لا يحاكي الواقع، بل إنه يعيد بناءه على أساس من الاحتمال، وينبغي أن نلاحظ أن من يدرسون الأدب دراسة اجتماعية لا يريدون أن يتبينوا فيه انعكاسات المجتمع فحسب، فالأديب لا يطلب في أدبه أن يعكس علاقات مجتمعه فحسب، بل يطلب منه أن يشارك في تكييف مجتمعه، بحيث يصبح جزءاً لا يتجزأ من كل ما يجري فيه من مشاكل وقضايا ومعارك، وبهذا المقياس الملتزم لا يعد الأثر الأدبي جيداً إلاَّ إذا عبّر بوضوح عن موقف صاحبه من قضايا عصره وأمته، ويخاصم بعض النقاد أصحاب هذا المقياس الاجتماعي، ذاهبين إلى أن الأدب يمثّل دائماً المجتمع الذي يصدر عنه، ويبالغ خصوم مقياس الالتزام، فيقولون: دعوا الأديب ينتج كما يلهمه المجتمع، وهناك بعض الباحثين في الأدب العربي أخذوا يتجهون إلى دراسته من الناحية الاجتماعية، غير أنهم عنوا غالباً ببيان صور المجتمع كما يمثلها الأدب.
     لا بدّ من دراسة الاتجاه النفسي في بحث الأدب ، فهو قديم قدم الإغريق ونظراتهم البصيرة في الشعر والشعراء، وتلقانا عند أرسطو تأملات مختلفة في نفوس الشعراء، والنفس البشرية كفكرة (التطهير)، وتضعف مثل هذه التأملات في العصور الوسطى، لجهل النقاد بها، ويعدّ (كولريدج) إرهاصاً قوياً للدراسات النفسية الحديثة في الأدب، وقد بدأت بدءاً علمياً لكلمة علم، حين نشر (فرويد) كتابه (تفسير الأحلام)، وما يكتبه عن طبيعة الفن والفنان ، وعلاقة الشاعر بأحلام اليقظة، أما فرويد فإنه يختار رسّاماً وقصصياً لتجسيد عقدة أوديب ،ويدرسها دراسة نفسية تحليلية، ومضى يدرس(ليوناردو دافنشي) في مذكراته وكتاباته، وما كتبه عنه معاصروه، كما أنه يحاول أن يردّ كل فنان، وكل آثاره إلى أمراض نفسية سببتها رغبات مكظومة، ومن تلاميذ فرويد ( أوتورانك)، ومن مصنفاته المهمة ( أسطورة ميلاد البطل)، ولا يقلّ عنه أهمية في التحليلات الفرويدية (شارل بودوان) في كتابه( التحليل النفسي وعلم الجمال) ، وممن برعوا في تحليل الفنانين على طريقة فرويد وتحليلاته الجنسية (رينيه لافورج) ، وخير مثال على ذلك كتابه (هزيمة بودلير) ، وتبرز نظرية النرجسية التي يتداولها كثير من النفسيين، وإن كان تأثير فرويد قد عَظُمَ في الباحثين من النفسيين وغيرهم، فإنه أثر تأثيراً بعيداً في كثير من القصاص الغربيين، ويعدّ( يونج) أهم النفسيين المنشقين على فرويد، وقد أثرى المباحث الأدبية النفسية بكنوز الذاكرة الإنسانية الموروثة، وما يتصل بها من أساطير، وشعائر وأهازيج بدائية وكل ما يمكن أن يردّ إلى نسيج شعبي عقيق ، وهو بذلك كله يفسح لمن يتحدثون عن الفولكلور والآداب الشعبية .
     ومن المدارس النفسية (المدرسة الجشطاليتية)، وهي تهتم بدرس النفس وفق منهج الرياضيين الذين يعنون بالبحث الكلّي المجرد، وأكبر الظن أنّ المدرسة النفسية أقرب من المدرسة الجشطاليتية إلى طبيعة الفنون، إذ تدرس تلك الطبيعة على أساس سلوك المتلقي لها قارئاً، أو ناظراً ،أو سامعاً، أو متفرجاً.
     أما الفلسفة الجمالية فإنها تبحث في إدراكنا للجمال، وفي مقاييسه، وأحكامنا عليه، ولا يراد الجمال مطلقاً، وإنما يراد الجمال في الفنون، ومعرفة العلل التي تثير فينا الشعور به، وموضوع الفلسفة الجمالية، الجمال الفني الذاتي الذي يتكون من شيئين: من الطبيعة ، ومن الفنان، وكان أول من استخدم مصطلح الفلسفة الجمالية (بومجارتن) الألماني في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وفي ذلك ما يدل على أن مباحث هذه الفلسفة مباحث حديثة، وظلت ألمانيا تقود مباحث الفلسفة الجمالية، وقد كثر البحث في الجمال الفنّي وحقائقه، ومعاييره وعناصره، وظهرت بحوث كثيرة تتناول هذه الجوانب، ويشير فلاسفة الجمال كثيراً إلى القيم الجمالية ، وهل هي خارجة في الفنون الجميلة ، أو هي داخلية، وتناقش فلاسفة الجمال في الصلة بين الجمال الفني والمجتمع، وأثيرت في القرن الماضي مشكلة (الفن للفن) ، فهو يطلب من الفن أن يمثّل الفضيلة، أو لا بأس من أن يمثّل أحياناً الأخلاق المعوجة والمنحرفة، ومنذ أواخر القرن التاسع عشر يتكاثر فلاسفة الجمال وفي مقدمتهم (كروتشه)، الذي يزعم أن الجمال والقيم ليسا ذاتيين في الطبيعة والإنسان، وهو يتسع بمعنى التعبير إذ يجعله مرادفاً لصورة الأثر الفني الكلية، وهو لا يتصور التعبير الفني في الشعر تاماً إلاّ بتمام أجزائه، وصورته الكلية، وهو بذلك يجسّد الجمال الفني في التعبير والأداء الكلي للصياغة، ويعزله عزلاً تاماً عن المجتمع، وعن كل ما يتصل بالمجتمع، وكأن الفن شيء، والمجتمع شيء آخر، ولا صلة بينهما، وهو ما يعارضه الكثيرون من فلاسفة الجمال الفرنسيين أمثال شارل لالو ، وإيتيان سوريو. ولعل من الطريف أن فلاسفة الجمال في البلاد الغربية ينظمون جمعيات للدراسات الجمالية، وتعنى عادة تلك الجمعيات بإصدار مجلات تبحث مباحث قيمة في الفلسفة الجمالية، وتقيم هذه الجمعيات مؤتمرات لعرض دراسات جمالية مختلفة.
     إن فلاسفة الجمال ومباحثهم تدل على أنهم يخوضون غالباً في متاهات ميتافيزيقية ، إذ يبحثون في الفنون مباحث فلسفية نظرية عامة، وهي بحوث تتناول طبيعة الإحساس بالجمال، و طبيعة الإبداع الفنيّ،ومصدر الجمال في هذا الإبداع ، وحقيقته، ومعاييره ،وقيمه، وصلته بمنشئه، وبالمجتمع، والواقع، والمطلق.
      لقد دعا كثيرون إلى عزل الأدب عن مقاييس العلوم الطبيعية، والدراسات الاجتماعية والنفسية والجمالية، ذاهبين إلى أن تأثيرات وجدانية في الباحث الأدبي، ومن أهم من دعوا إلى هذا الاتجاه الذاتي أو التأثري ،التأثري ( جول ليمت). ودراسة التاريخ الأدبي، والآثار الأدبية دراسة تأثرية ذاتية تعتمد على التذوق الشخصي، ينبغي ألاّ تنتهي بصاحبها إلى أي ضرب من ضروب التحكم في التذوق، كما ينبغي أن تقوم على التعمق في ظواهر الحياة الأدبية، وإتقان المعرفة بآثارها، ونماذجها على مرّ الأزمنة إتقاناً يتغذى به ذوقه غذاء من شأنه أن يحيله ذوقاً مصفّى من كل الشوائب، وجميع أنصار هذا الاتجاه  الموضوعي يُعنون ببحث البناء الفني للقصيدة، والشعر، وفحص لبناته فحصاً دقيقاً دون الدخول إلى أي شيء خارجي يتصل بالمجتمع، و واضح أن هذا الاتجاه في البحث الأدبي يُعنى بالنصوص والآثار الأدبية في ذاتها، دون إقحام متعمّد لأشياء خارجية من بحوث علوم الطبيعة، أو علم الاجتماع أو علم النفس ،أو الفلسفة الجمالية.
      على الباحث أن يفيد من المناهج والدراسات جميعاً، حتى تتكشف له جميع الأبعاد في الأديب، وفي الآثار الأدبية، ومن المناهج المنهج المستمد من علوم الطبيعة، إذ يلفت الباحث إلى دراسة الأديب في أسرته وتربيته، وجميع المؤثرات الذاتية التي عملت في تكوينه، ومواطن الضعف والنقص فيه، ومواطن القوة والكمال. والمنهج الاجتماعي يدفع الباحث إلى التعمق في طبقات المجتمع، ومحاولة تبين ظروفها، وما بينها من علاقات ومدى تأثير هذه العلاقات في شخصيات الأدباء، وما نهضوا به من دور أو أدوار في الحياة العامة، وللبحوث النفسية في الدراسات الأدبية خطرها، إذ تجعل الباحث يعيش مع الأديب في صباحه ومسائه، وفي غدوه ورواحه، وفي أسرته، وفي أبويه، وفي إخوته، متتبعاً كل كبيرة وصغيرة من شؤونه، لاشك في أنّ كل ذلك يلقي أضواء على الأديب المدروس، والباحث الأدبي بجانب ذلك بحاجة إلى الاطلاع على دراسات الفلسفة الجمالية لتضيء له الطريق إلى مقاييس الجمال وقيمه وتفسيره، والاطلاع على هذه الدراسات من شأنه أن يوسّع الآفاق العقلية للباحث الأدبي، وينمي مداركه في تصور وظيفة الفن، ويلتفت الباحث الأدبي من خلال قراءاته للدراسات التأثرية إلى ما ينبغي عليه من تغذية ذوقه، وإعداده للحكم البصير على النماذج الأدبية، بحيث تكون انطباعاته سليمة، وهو بدون شك في حاجة إلى رهافة في المشاعر والعواطف،  كذلك فإن الدراسات الموضوعية من شأنها أن تعمّق فيه صلة بالتراث الماضي، بحيث يحسّ في قوة تيار الأصول الفنية الموروثة، وما يرتبط بها من تقاليد، ولن يتكامل عمل مؤرخ الأدب بدون معرفة هذه الجذور و نموها على مرّ التاريخ، ولعل في تعددها ما يشهد بأن الآثار الأدبية كنوز حافلة بجوانب وفيرة، ولعل في تعددها ما يشهد بأن منهجاً واحداً لا يغني غناءً تاماً في البحوث الأدبية، فلا بدّ أن يتحول عقل الباحث إلى ما يشبه مرآة تعكس أضواء كل تلك المناهج ، وهو بعد ذلك يحاول أن يستثمر تلك المناهج في بحوثه الخاصة، ويضيف إليها من جهوده العلمية الغزيرة، ومن انطباعاته الشخصية ما يجعلنا نشعر حين نقرؤه بمتاع لعقولنا.














الفصل الثالث
الأصول
      كان القرآن الكريم أول كتاب أنزله الله على رسوله – صلى الله عليه وسلم – وقد دونه أبو بكر في مصحف واحد، ثم دونه عثمان بن عفان في مصحفه المشهور، وظل الحديث لا يدّون بعد عمر تدويناً عاماً حتى أوائل القرن الثاني للهجرة، ووجدت منذ القرن الأول الهجري بعض مدونات في المغازي، والأمثال ، والأخبار، والأنساب، والفقه والتشريع، غير أن غلبت عليها جميعاً فكرة الرواية، والنقل الشفوي، ومنذ أول الأمر عني أصحاب الحديث النبوي بصحته وصدقه، وخاصة أنه تأخر في تدوينه، وظل يروى على مر الأجيال مما عرضه لوضع كثير، وقد دفع ذلك المحدثين من قديم إلى التوثق في رواية الحديث من الرواة الذين يحملونه، فدرسوهم ووزنوهم بمعايير سديدة، وهذا التوثيق لرواة الحديث تبعه توثيق مماثل لرواية كتبه وصحة نقلها عن مصنفيها، وهناك عمل ضخم من التوثيق العلمي أخذ يحوط رواية الحديث منذ القديم بسياج متين من الصحة والدقة، وقد رافقه تحقيق واسع في صحة رواية النص، وهاتان الصورتان من التحقيق والتوثيق نلتقي بهما في رواية الأشعار، والأخبار القديمة، وكان هؤلاء العلماء يستقون الأخبار والأشعار من القبائل العربيّة وكانوا يرحلون إليها في مواطنها بنجد، ليأخذوا روايتهم من ينابيعها الأصيلة، وكان قد هاجر من البدو كثيرون إلى البصرة والكوفة وبغداد، فكانوا يرفدون هؤلاء العلماء بما يريدون من مادة شعرية، وأخبار غزيرة.
     أما الحديث النبوي الشريف، فقد اهتم المسلمون بروايته اهتماماً بالغاً ، لأنه يعدّ في المرتبة الثانية بعد القرآن الكريم، في التشريع الإسلامي، وقد حــــضَّ الرسول – عليه الصلاة والسلام – على رواية أحاديثه، ومن يرجع إلى كتب الحديث ، وأهله، تروعه الدقة في روايته، والحذر البالغ في الأخذ عن رواته، فقد ميّزوا الثقات من الضعفاء والمتهمين، ومضوا يتحرون منتهى التحري، واشترطوا في الحافظ شروطاً كثيرة، واشترطوا فيما يروى حديثاً عنه أن يكون قد تحمله بطريقة من طرق ثمان هي: السماع، والقراءة، والإجازة، والمناولة، والمكاتبة، والإعلام ، والوصية، والوجاءة.
      أما السماع، فيراد به المشافهة التي تجعل التلميذ يقول: سمعت، والقراءة :هي قراءة التلميذ على شيخه استظهاراً من صدره، أو من كتاب ينظر فيه، والإجازة: أذن الشيخ لتلميذه برواية مسموعاته، وعادة ما يكتبونها في نهاية مصنفاتهم ، والمناولة: أن يدفع الشيخ إلى تلميذه أصل سماعه، أو نسخة مقابلة عليه، والمكاتبة: أن يكتب الشيخ مسموعه لغائب، أو حاضر بخطه، أو بأمره، والإعلام :أن يعلم الشيخ تلميذه أن كتاباً بعينه سماعه مقتصر من ذلك،والوصية:أن يوصي الشيخ عند وفاته ،أو سفره لبعض تلاميذه برواية كتاب عنه.
     أما رواية الشعر ودواوينه، فقد بدأ المحدثون بتمييز الرواة المتهمين من الموثقين، أمثال (حماد الرواية، وخلف الأحمر)، وكانا ينخلان شعر الشاعر وغيره، ويزيدان في الأشعار، كما أن البصريين امتحنوا أشعار القدماء، ومحّصوا أسنادها ومتنوها، حتى ظهر (ابن سلام) ،ووضع كتابه النفيس (طبقات شعراء الجاهليين والإسلاميين)، وهو خلاصة لما دققه علماء البصرة من نصوص الشعر القديم، والواضح أن رواة الشعر الموثّقين من أمثال ابن سلام، كانوا يفحصون ما تضيفه القبائل إلى شعرائها من أشعار، ويرفضون ما يثبت عندهم زَيْفُه، كما كانوا يرفضون رواية الرواة الوضّاعين ممن يحسنون صوغ الشعر، وينسبونه إلى القدماء، كما تشدّد علماء اللغة والشعر، فكانوا لا يقبلون رواية الشعر من صحيفة، ولا من مصنّف مكتوب، بل لا بدّ أن يكون أساسها الأخذ من عالم ثَبْت في الرواية، وفي اللغة، ويكثر في مخطوطات الدواوين الجاهلية و الإسلامية أن تنسب إلى رواة البصرة، أو إلى رواة الكوفة، وكان الأولون يبالغون في التشدد والتوثق، ومما لا ريب فيه أن القدماء عُنوا عناية واسعة بتوثيق دواوين الشعر القديم، وكانوا لا يزالون ينصّون على ما زاد في بعض الروايات، كما كانوا ينصون أيضاً على أوثقها، ويلقانا في بعض الدواوين الشعرية القديمة أنها من صنعة هذا العالِم اللغوي الكبير، أو ذاك، وكانوا يَعنون  بذلك أنه راجع الروايات المختلفة للديوان، وقابل بينها، وأخرجها معتمداً على أوثقها، وأضبطها في رأيه، وكثيراً ما كانوا يكتبون سند الرواة على الصفحة الأولى من الديوان، ودائماً تتقدم النسخة المسندة غيرها من النسخ حتى في الرواية الواحدة .
     لقد بذل علماء الشعر واللغة جهداً في توثيق المصنّفات اللغوية والأدبية المعرقة في القدم، وهناك مصنّفات كثيرة نجد على الورقة الأولى منها موقوفة على طلاب العلم، ويذكرون عادة تاريخ وقفها، وقد نجد عليها أسماء من تملكوها قبل أن توقف، وتاريخ تملكهم لها، وقد نجد عليها أسماء بعض العلماء الذين قرأوها أمام صحيفة الفنون، أو في بعض الهوامش، ولا يفيدنا ذلك في التوثيق منها فحسب بل يفيدنا أيضاً في معرفة من ثقفها من العلماء .
     وأول أدوات التحقيق جمع نسخ الكتب المخطوطة من المكتبات ، وحين تتجمع نسخ الكتاب في أيدينا نرتبها حسب القدم، فلا ينبغي إهداء النسخ غير الموثقة ، وينبغي ألاّ نخدع بقدم النسخة، وينبغي أن نشير إلى أن من كتب العصور السالفة  ما كثر تداوله حتى أصبح شعبياً، وكان أسلافنا يعرفون أهمية الأصول الصحيحة، وكانوا يميزون بدقة بين خطوط المؤلفين، والعلماء المصنفين، وينبغي أن نعرف أن القدماء كانوا يخطئون أحياناً في أسماء المؤلفين بعامل الاشتباه عليهم، ولذلك تجب مراجعة الأسماء التي يضعونها على المخطوطات بدقة ، وكانت مخطوطات دواوين شعر الجاهلية والإسلامية تعود إلى روايتين أساسيتين: بصرية، وكوفية ،وعادة حين تتعدد مخطوطات ديوان، أو كتاب يضع المحققون المحدثون لها رموزاً، إما من اسم الرواية مثلاً، وإما من اسم المكتبة التي توجد بها المخطوطة، أو اسم البلدة الموجودة بها، والمهم أن القدماء عرفوا فكرة الرموز التي يستخدمها المحققون اليوم، لقد كانوا يعرفون كل القواعد العلمية التي نتبعها في إخراج كتاب لا بد من حيث رموز المخطوطات فحسب، بل أيضاً من حيث اختيار أوثق النسخ لاستخلاص أدق صورة للنص، ولعل خير ما يمثل عملهم في هذا الجانب إخراج – اليونيني- حافظ دمشق المشهور في القرن السابع الهجري لصحيح البخاري ، وكثيراً ما يذكر المؤلفون القدماء مصادرهم التي ينقلون عنها، وحينئذٍ ينبغي على المحقق أن يعارض الأصل الذي بيده على مصادره، وقد يحدث أن ينشر كتاب من المخطوطات غير موثقة ، فيدخله بعض السقم، وبعض التصحيف، فإذا قابلنا عليه فرعه صحّحه على نحو ما نجد عند  (ابن سعيد) في ترجمته (لابن شهيد ) الأديب الأندلسي المشهور.
      وقد لا يذكر مؤلف مصادره في كتابه الذي ألفّه ، ويكون من السهل أن يرجع إليها، ونقّّوّم منها نصوص الكتاب، ومن خير الأمثلة على ذلك كتاب (الرد ع النحاة) لابن مضاء القرطبي المنشور من مخطوطة حديثة بالمكتبة التيمورية مليئة بالأخطاء والتصحيفات حتى إن الناسخ كان يضع أحياناً الشطر الثاني للبيت قبل الشطر الأول، وقلما روى بيتاً صحيحاً.
      وهناك صعوبات في الأصول والتحقيق، فكثيراً ما يمحى جزء من عنوان المخطوطة، أو من اسم المؤلف، ويمكن التعرف على العنوان والاسم كاملين من مخطوطات أخرى للكتاب، أو من اقتباسات كبيرة منه في كتب تأخرت عنه، وإذا كان الممحو اسم المؤلف وحده، أو اسم الكتاب وحده، فإن التعرف عليه يكون أسهل، ويحدث كثيراً في بعض النسخ والأصول أن يسقط منها أوراق ويسمى ذلك (خَرْماً ) ، كما يحدث كثيراً أن يضطرب ترتيب أوراقها ، ومن الكتب التي نجد فيها الآفتين معاً آفة الخرم ، و آفة الاضطراب في الأوراق ، القسم المصري من كتاب (خريدة القصر، وجريدة العصر)، ومن المخطوطات أيضاً: القسم الأندلسي من كتاب المغرب لابن سعيد، وقد كان المؤلفون يراجعون كتبهم، ويزيدون فيها، وحينئذٍ ينبغي أن تتخذ أصلاً لتحقيق الكتاب ،آخر نسخة مزيدة، ولا يصح أن ننشر كتاباً من نسخة بها زيادات واضحة إذا لم نستطع أن نحصل على نسخة سليمة ، وكان من الممكن أن تنفى عنه ما دخل عليه من إضافات على نحو ما يلاحظ في كتاب (الدرر في اختصار المغازي والسير) فليس منه سوى نسخة وحيدة محفوظة بدار الكتب المصريّة، وينبغي ألاّ نغتّر بنسخة عليها قراءات العلماء ، أو عليها تمليك أو وقف لجامع، أو مكتبة، أو مدرسة، فقد يكون في النسخة أغلاط لا يتبينها المحقق، ولذلك كان يحسن دائماً معارضة النسخة التي تتخذ أصلاً على كل المصادر التي يمكن أن نلتقي بها، ولو لم يصرح بأسمائها المؤلف، ويحتاج نشر الدواوين وكتب المختارات من الأشعار والموشحات إلى فقه دقيق بعلم العروض ولتلافي صعوبات الخط العربي لتشابه الحروف، اقترحوا أن يوضع تحت الحرف المهمل نفس النقط الذي يوضع فوق مثيله المعجم. ومعروف أنه نشأ منذ القرن الثاني للهجرة أجيال كثيرة احترفت (نسخ المخطوطات)، وكان كثير منهم يحسن الخط ، ولا يحسن العربية، فكان يخطئ فيما يكتب، وقد ينسخ من نسخته وراق ثان  على شاكلته فيضيف إلى أخطائه أخطاء جديدة، وربما نسخ من هذه النسخة الثانية وراق ثالث من طرازهما، فتراكمت الأخطاء. وقد يظن أن المخطوطة إذا كانت بخط المؤلف كفي المحقق مئونة تقويم ما قد يكون بها من تصحيفات، أو أخطاء، وهو ظن لا يستقيم إلاّ إذا أثبت مؤلفها على هوامشها ما يدل على أنه راجعها وصححّها، وقوّم ما بها من بعض العوج والاضطراب. والتصحيف عبء ثقيل على المحققين، وقد عني به رجال الحديث عناية واسعة منبهين على ما وقع من تصحيف في الرجال أو الرواة، أوفي المتون، أو نصوص الأحاديث، ولا بدّ أن يميّز المحقق للمخطوطات من ضربين من الغلط عند المؤلفين، ضرب ينشأ من السهو، وهذا من حقه تصحيحه، وضرب آخر ينشأ من التطور اللغوي على مرّ الزمن، واستخدام المؤلفين عمداً لبعض الكلمات، والعبارات العامية  وهذا الضرب الثاني من الغلط يجب على المحقق ألاّ يصلحه.
     وينبغي على كل شخص أن يقدم لكل كتاب يحققه بترجمة مختصرة عن مؤلفه، ومنهج تأليفه، ومصادره، ويشير إلى اعتماد صاحبه على المشافهة والمشاهدة، إن كان قد اعتمد عليهما الكاتب في نصوصه، ثم يتحدث عن قيمته، ومدى إضافاته للبحوث الأدبية، أو العلمية المتصلة به ، مبيناً صلته ببعض الفروع التي أخذت عنه، كما يبين مدى إفادة الباحثين منه، ثم يصف نسخته التي اعتمد عليها في نشره نسخاً دقيقاً، ولا بأس أن يتوسع المحقق أحياناً في مقدمة الكتاب الذي كان ينشره إذا كان ذا فائدة علمية طريفة، وينبغي على المحقق أن يبسّط، ويوضح القيم الأدبية والتاريخية التي يحملها الكتاب، ولا بدّ من التقييد بالتقسيمات التي وضعها المؤلف لكتابه، ولا يدخل عليها عناوين جديدة، ويعتني بالترقيم، والنقطة، ولابدّ أن يفرّق المحقق بين صور الأقواس الصغيرة والكبيرة، ووضع أرقام الأصل أساسي في التحقيق، وبجانب الأرقام الخارجية يحسن أن توضع في كتب التراجم أرقام داخلية تتعاقب فيها تراجم النص شعراء وغير شعراء ، ومما ينبغي العناية بترقيمه ( كتب القراءات ) فكتاب في القراءات ينبغي أن تفهرس آياته التي ورد فيها الخلاف بين القراء مرتبة بحسب أوائلها على حروف المعجم، ويوضع فهرس أيضاً للأعلام الواردة فيه، ودائماً لا بدّ من فهرس لموضوعات الكتاب، وإذا كان كتاب تراجم وضع لتراجمه فهرس مستقل عن فهرس الأعلام.
إن تحقيق أي كتاب أو ديوان ليس عملاً هيناً ، بل هو عمل شاق مرهق، إذ تمتدّ فيه صعاب لا تكاد تحصر، صعاب في جميع النسخ، وفي فحص عناوينها، ومقابلة النسخ ومعارضتها.















الفصل الرابع
المصادر
      من المصادر  ما هو أصلي ، وفرعي ثانوي، وترجع أصالة المصادر الأصلية إلى أنه أقدم ما عرف عنه، وأنه لم يدخله تحوير مع مرور الزمن ، وأكثر المصادر أصالة هو ما كتبه المؤلف بيده ، وكذلك ما أملاه وأجاز روايته عنه، وقِدَم المصدر جزء لا يتجزأ من أصالته ، ومن المصادر : سجلات الدواوين الحكومية، وأهميتها تتضح في التعرف على شخصيات الأدباء المعاصرين  الذين عملوا في الحكومة، أو وظفوا في الدواوين، وكذلك المذكرات واليوميات ومنها ما هو عام ( مذكرات محمد حسين هيكل)، وخاص (طه حسين :الأيام)، ومن المصادر الأصلية: الأغاني الشعبية، والقصة، والأقاصيص الشعبية، لأنها تصّور لنا طبائع الأمة، وعاداتها، وتقاليدها، وصور تعبيرها عن أفراحها، وأحزانها، وآلامها، وأعراسها.
    أما المصادر الثانوية الفرعية فهي كثيرة، فما يروى من دواوين الشعراء، لأن الراوي قد يغيّر فيه كلمة نسيها، وقد يغير شطراً، كذلك كل المصادر المتأخرة عن المصادر الأصيلة مثل ( تراجم الشعراء العباسيين في القرنين الثاني  والثالث الهجريين )، كذلك كل ما يساعد على فهم الشعراء، وفهم أشعارهم، كشرح دواوينهم، والكتابات التاريخية، والاجتماعية والثقافية التي تصوّر لنا روح العصر الذي عاشوا فيه، وهي تتفاوت في أهميتها، فمنها ما يصبح ضرورياً للبحث حتى ليعدّ مادة أساسية من مواده.
والمصادر الشفوية هي أولى المصادر في الأدب واللغة، وقد عني بها القدماء عناية واسعة، وقد تنبهوا لفكرة المصادر، فكل خبر معه مصدره، وكل كلمة معها مصدرها، هذه العناية لم تحظ بها اللغة والأدب، ومن يرجع إلى كتاب (المخصص) لابن سيده، يجده يذكر في مقدمته مصادره التي استقى منها مادة كتابه، وعلى رأسها كتب (الأصمعي)، وكلما دار الزمن بنا دورة رأينا اهتمام العلماء بالمصادر يزداد توثيقاً لما يؤلفون، ويصنفون، فياقوت الحموي في كتابه (معجم الأدباء) ،(ومعجم البلدان) يسجّل في مقدماته كثيراً من المصادر التي اعتمد عليها في تأليفه مما يتصل بتراجم اللغويين والنحاة، وأسهب إسهاباً طويلاً في بيان مصادره فيهما، ومن كتب تفسير القرآن الكريم ( البحر المحيط لأبي حيّان) المتوفي سنة (754هـ) ،وفي علم اللغة يذكر كتاب (الفصيح ) لثعلب، ومعجمي (المخصص والمحكم) لابن سيده ، ويذكر في علم النحو كتاب (سيبويه )، و(الممتع في التصريف )لابن عصفور، وفي البيان والبديع (مقدمة ابن النقيب المصري)، وفي علم القراءات كتاب( الإقناع ) لابن الباذش في القراءات السبع، ولا نكاد نقرأ كتاباً مهماً منذ القرن الرابع الهجري، إلاّ ومعه هذه المصادر الكثيرة، ولعل علماً لم يعن بذكر مصادره مثل (علم القراءات). وكانوا أحياناً لا يسجلون مصادرهم في مقدمات كتبهم، ولكن حين ينقلون من مصدر في تضاعيفها يسجلونه، وينقلون لفظه بكلماته وحروفه، مثل كتاب ( المعرب في حلى المغرب)، ولعل في هذا كله ما يصور مدى احتكام أسلافنا إلى المصادر، وانتفاعهم بها، ونصّهم عليها في مقدمات كتبهم، وفي تضاعيفها، وكانوا غالباً إذا نقلوا منها لم يلخصوا ولم يحرفوا في عباراتها، بل يتقيدون بالألفاظ تقيداً شديداً، مع تسمية المنقول عنه من الكتب، أو من الأساتذة والشيوخ، دقة في النقل، ومبالغة في التحري.
     والحقيقة أنه لم تعن أمة بنقد المصادر كما عنيت الأمة العربية، ومما دفعها إلى ذلك عنايتها بالحديث النبوي الشريف، فكل حديث تُعرض مصادره على النقد، مما جعلهم يؤلفون مجلدات في الرواة، كما يسمونهم (رجال الأسانيد) يتتبعونهم فيها تتبعاً دقيقاً، والتجريح لرواة القرن الأول قليل، وذلك قبل أن تتكاثر الأهواء، وتتعد النَحِل، وكان التعديل يقوم على اتصاف الراوي بالعدالة، وثبوت الأهلية للراوية، وكانوا يتتبعون الراوي طول حياته، أما التجريح فكان يقوم على اتصاف الراوي بنقص العدالة، والصدور عن الهوى، فإذا عرف الراوي بشيء من الخلط ، أو الكذب سقطت روايته. ومن أهم مراصدهم في التجريح، كون الراوي لم يلق من حَدّث عنه، وكانوا يعرفون ذلك  عن طريق بلدان الرواة، وأزمنة وفياتهم، ولذلك فإن كتب الحديث ومصنفاته حققت وفحصت فحصاً دقيقاً واسعاً . وفي الشعر واللغة متواتر، ومنقطع، ومرسل، ومعضل، وشاذ، ومعضّل، وكل نوع معه رواية توضحه توضيحاً كافياً . وفي رواية اللغة والشعر والحديث النبوي تنبّه أسلافنا إلى ما تجرّه المنافسة من تجريحات، وأحكام خاطئة، ومما تنبهوا له أيضاً العصبية في المذهب، مما قد يحمل على التجريح، ولعلّ في هذا كله ما يوضح مدى ما كان يأخذ به القدماء أنفسهم في نقد المصادر وتشريحها، وفحص كل  مادتها فحصاً دقيقاً، وقد تنبهوا إلى ما قد يحدث من غلبة الهوى ، حتى ليتورط بعض الحفّاظ الأتقياء أمثال (الذهبي) في التعصب الشديد للمذهب، ومن أجل ذلك رصدوهم، وأخضعوهم لامتحان شديد حتى يتأكدوا من عدالتهم .
     إن أول واجب على من يتصدى لدراسة موضوع أن يحيط إحاطة تامة بمصادره،  ومن الطبيعي أن تختلف كثرة المصادر وقلتها باختلاف موضوعات البحث، وينبغي أن يستقر في أذهان الناشئة من الباحثين أن من الواجب أن يتخلصوا في كتاباتهم عن شاعر من المقدمات التي تكتب عن عصره، وليس يكفي أن نجمع المصادر، بل لا بدّ أن نحسن الإفادة منها أكبر فائدة، ومما ينبغي أن يتحاشاه الباحث أن يعنى بموضوع يفتقر إلى لغة لا يتقنها إتقاناً تاماً، كمن يعنى  بدراسة الأزجال الأندلسية دون أن يكون له أي معرفة باللغة الرومانسية وألفاظها التي سقوا منها كثير إلى تلك الأزجال بحيث لا تفهم أحياناً دون معرفة دقيقة لما تحمل تلك الألفاظ . ومما يتصل بذلك كثرة المصطلحات العلمية التي كان يقحِمها الشعراء على أشعارهم منذ أبي العلاء المعري. وهناك مسألة لا تحلّ إلا عن طريق القراءة الواسعة المتصلة بالموضوع الذي يريد الباحث أن يدرسه ، ومن أهم ما ينير أمامنا الطريق لمعرفة المصادر (دوائر المعارف وكتب الفهارس قديماً وحديثاً) وعادة يعرضون في الفهرسة أسماء شيوخهم ،والكتب التي قرأوها عليهم،أو رووها عنهم ، أو سمعوها منهم، وهي مهمة في معرفة الكتب التي كانت تتداول في عصر هذا الشيخ، أو ذاك. ولابدّ أن نضم إلى ذلك المقالات التي تنشر في بعض المجلات عن العصر، موضوع الدراسة، وما تشير إليه من مصادره، ولابدّ أن نضمَّ أيضاً فهارس دور الكتب الكبيرة ، مثل :( دار الكتب والوثائق القومية ) بالقاهرة.
     ومن أهم المصادر التي تعرضت لنقد القدماء والمحدثين هي: رواية الشعر الجاهلي، ومن حمله من الرواة، و ما حمله من الكتب ، ولفت هذا الجهد الخِصْب القيِّم المستشرقون منذ أواسط القرن الماضي، وبدلاً من أن يقفوا عند الإعجاب بصنع القدماء مضوا يتهمون الشعر الجاهلي عامة دون أن يقدموا براهين جديدة، وأشهر من نقد مصادر الشعر من العرب المعاصرين (طه حسين ) فقد كتب ذلك في كتابه (في الأدب الجاهلي)، وفيه هاجم هجوماً عنيفاً رواية الشعر الجاهلي، مجرّحاً لها في أربعة كتب ، وكل البراهين التي ساقها طه حسين لدحض الرواية للشعر الجاهلي منقوضة . ومن المفروض أن يتخذ الباحث بطاقات يدوّن عليها بإيجاز ما يراه نافعاً في المصادر التي يقرؤها مما يفيد بحثه ،أما تدوينها كاملة فإنما يكون في البحث نفسه، ومن الواجب ألاَّ يتهاون الباحث في تسجيل الملاحظة التي تصادفه في بعض المصادر متكّلاً على ذاكرته، وينبغي أن يذكر مع الملاحظات المصادر التي تحتويها، وصفحاتها، وعادة ما تنظم البطاقات في مجموعات، ويحسن أن تكون لها ألسنة صغيرة، وعليها عنوانات المصادر لسرعة الفائدة منها، وليس هناك ترتيب واحد يتحتّم الأخذ به في تنظيمها، وترتب البطاقات حسب الفصول، ويبدو أن أسلافنا كانوا يعرفون من قديم نظام البطاقات معرفة جيدة، وقد دأبوا على تدوين الملاحظات التي جمعوها من بطون الكتب في مصنفاتهم، ولم يكونوا يعرفون الطريقة التي نتبعها اليوم من ذكر الجزء والصفحة، فالتزموا أن ينقلوا الاقتباسات عن المصادر السابقة كاملة. أما اليوم فالمصنّفون ينصّون على بدء الاقتباس بمثل: قال ونحوها، ثم يتلونها بعلامات التنصيص، وينبغي ألاّ يُفْرِط الباحث في كثيرة الاقتباس من المصادر، وينبغي على الباحث الناشئ ألاّ يكرر نصاً مقتبساً في بحثه، ومن أسوأ الأشياء أن يسوق الباحث اقتباساً لا يرتبط بكلامه ارتباطاً دقيقاً، وكأنه يريد أن يدل على قراءته لمصدر من المصادر، وأولى به ألاّ يقحم مثل هذا الاقتباس الذي يضعف التسلسل المنطقي في كلامه، ويكثر في مصادرنا القديمة غير المحققة (الغلط والخطأ) بسبب التصحيف، أو التحريف، ويحسن أن نتبع الكلمة المغلوطة، أو المصحفة التي لم نستطع قراءتها قراءة صحيحة بكلمة (هكذا)، وإذا حذف الباحث كلمات في وسط الاقتباس ، أو في أثناء الترجمة كان من الواجب أنه حذف من الأصل بعض الكلمات طلباً للإيجاز.
ولم يكن أسلافنا يعرفون نظام (الهوامش) ،وإنما كانوا يعرفون نظام(الحواشي) إذ كان يوجد بياض، أو فراغ على جوانب الصفحة يمكّن من كتابة بعض التعليقات ، وعادة لم يكن يكتبها المؤلفون أنفسهم، وإنما يكتبها بعض العلماء الذين يقرؤون الكتاب، وكانت الحاشية تمتّد سطوراً غير قليلة، فهي ليست مثل الهوامش الحديثة ، وقد ساعدت المطبعة المؤلفين على استخدام الحواشي والهوامش جميعاً ، وأصبحت الحواشي جزءاً لا يتجزأ من البحوث الحديثة ، ويراد بها بيان المصادر التي استخدمها الباحث في بحثه، وكأنها مستنداته في الدراسة.
وهناك خطأ يقع فيه بعض الباحثين الناشئين وهو أن يجد في بحث سابق له إشارة إلى مصدر، فيأخذ هذا المصدر عنه، ورقم صفحته ،دون أن يطلّع عليه، أو يراجعه، وقد يكون الباحث السابق أخطأ في ذكر المصدر عن غير قصد. وقد يعمد الباحث الناشئ إلى كتاب مزوّد بكثير من الفصول والمصادر، فينقل كثيراً منها، ولذلك ينبغي عليه ألاّ يدع نفسه عالة على غيره من الباحثين السابقين، بل يحاول أن تكون له تجربته المستقلة مع المصادر، وأن تكون له آراؤه الجديدة التي يضيفها إلى الآراء السابقة، وليس الغرض من البحوث أن يدّل الباحث على كثرة ما قرأ من المصادر المتصلة مباشرة بالبحث، وغير المتصلة، إنما الغرض أن يستنبط من مجموع ما يقرأ قضايا، أو أفكاراً جديدة، فلا بدّ للباحث من المصادر ،ومن الاتساع في القراءة، ولكن لا يستكثر من الهوامش، وإنما لينتخب منها مادة بحثه، ومما يدخل في التكثر من ذكر الهوامش والمصادر ما يحاول بعض الباحثين إثباته من أنهم قرؤوا كثيراً من المصادر الأجنبية، أو المكتوبة بلغات أجنبية، فإذا هم يحشدونها دون حاجة حقيقية. ودائماً ينبغي الدقة في اختيار المصادر ، وفي وضع أجزائها ، وذكر طبعاتها، ويحسن أن  يضمن هوامشه شروحاً لغوية للأشعار الغريبة في البحث، حتى يتابعه القارئ فيما يستنبط وحتى لا يجد صعوبة فيما يقرأ، ولا عقبة تحول بينه وبين الفهم الدقيق.

الخاتمـــة
       ظهر لي في نهاية هذا البحث أن أفكار الدكتور شوقي ضيف مترابطة ومتماسكة ، كما إنه لا يعيد الفكرة التي يطرحها بدأ أو بالأصح لا يتناولها مرة أخرى بالطرح في مكان آخر من كتابه,  ولكنه إذا احتاج أن يربط القارئ بفكرة سابقة مرت في الكتاب فإنه يشير إليها إشارة خاطفة موجزة، لذلك جاءت جميع أفكار الكتاب مرتبة ومتناسقة وغير مضطربة .
       كما أن مباحث الفصول كلها تنتظم تحت عنواناتها فلا تجد انزياحا ولا اتساعا فارطا, كما لاحظت أن الدكتور طبق على كتابه معلوماته ولكن بشكل أعم ، والدليل وضعه لفصل المصادر في آخر الكتاب كما هو الطبيعي.
       أما المقدمة والخاتمة في كتاب الدكتور فإنها عبارة عن جمل عالية التركيز في فصول ومباحث الكتاب، تطرح نفسها في المقدمة كمشاكل،  وتوجد الحلول والنتائج في الخاتمة وتنتظم كل مباحث الكتاب وتلخص أهم ما فيها وكأنها عروق الدم الممتدة من وإلى الكتاب .
        و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، و صلى الله على سيدنا محمد و على آله و صحبه أجمعين .